الأحد، 20 يوليو 2014

عبدالله المبارك في أوراق العلامة أحمد البشر الرومي


في أوراق العلامة أحمد البشر الرومي في الكتب واليوميات القديمة جاء ما يلي :
9 من مايو 1945
اقام الشيوخ الزينات على الدوائر وأولم الشيخ عبدالله المبارك وليمة للناس في المديرية وأقيمت العرضات حول المديرية واصطدم حصانان في العرضة فنفق أحدهما وصاحبه وتضرر الآخر وصاحبه .

24 من يونيو 1945
مساء هذا اليوم وزعت دار الاعتماد ( البريطانية ) منشورا يحتوي على أربع صفحات، في الصفحة الأولى صورة الشيخ عبدالله المبارك وفي الثانية خطاب رئيس الخليج ، وذلك بمناسبة الوسام الذي أهداه إياه ملك الإنكليز وهو من نوع C.I.E وهو وسام الإمبراطورية الهندية من الدرجة الرفيعة .
6 من يوليو 1945
في آخر هذه الليلة أي فجر الغد يسافر الشيخ عبدالله المبارك إلى البصرة لاستقبال الشيخ عبدالله الجابر القادم من الهند بعد علاجه هناك .



17 من يناير 1947
أدى التحقيق وفحص دفتر دكاكين توزيع الأقمشة بدائرة التموين إلى اكتشاف عدة تزويرات متنوعة عند جميع دكاكين التوزيع، وأصبحت النزاهة عند أهل هذه الدكاكين نادرة وسيحاكم أكثرهم غدا عند الشيخ عبدالله المبارك .
23 من يناير 1947
أرسل حمود المقهوي برقية من بغداد يطلب فيها 1300 دينار ويطلب سفري بسرعة، فأرسل إلى مدير المعارف وقال اذهب إلى الشيخ عبدالله المبارك في المحكمة، فذهبت وقال لي إذا كنت عازما على السفر وجاهزا فهناك العصر في المديرية نعطيك رخصة على شركة السيارات، ثم رجعت إلى مدير المعارف فوجدته حول المبلغ على يد صبيح (براك الصبيح) وحثني على السفر غداً، وأنا سأسافر غدا إلى بغداد لهذه الغاية .
17 من مارس 1948
علم الشيخ عبدالله المبارك أن هناك قطاع طرق، فذهب هذا اليوم يتجول في حدود الكويت الشمالية ، فصادف امرأة ورجلا أنبأاه بأن جماعة هاجموهما وسلبوهما، فأخذ الرجل والمرأة ليدلاه على مكان الحادث، وهناك شاهد 9 من الرجال فألقى عليهم القبض بدون قوة إلا رجلاً أطلق الرصاص على سيارة الشيوخ فأطلقوا عليه النار فقتلوه ، واقتادوا الباقين. وعلمت أن الشيخ عبدالله خرج هذا اليوم لحرق بيوتهم عقاباً لهم، وزجوهم في السجن .





9 من أبريل 1948
بينما كان لنج الشيخ عبدالله المبارك يتجهز للنزهة إذ شبت فيه في الصباح النار وبقى مشتعلا حتى أتت النار على آخره ، ولم يبق إلا الجزء الغاطس في الماء ، ثم ابتلعه اليم بعد ذلك ولم يبصر المشاهدون إلا آثارا ورمادا طافياً على سطح البحر حدث هذا بجوار الفرضة، التي تأتيها السفن التجارية من إيران والبصرة داخل النقعة .
وليمة 8 من فبراير 1952
مساء هذا اليوم أقام الشيخ عبدالله المبارك وليمة للبعثات العراقية والمصرية وأعضاء المعارف ، وقد ذهبنا في الساعة السادسة .
13 من فبراير 1952
كنت قد عزمت على الذهاب إلى القنص مع الأخ عبدالله بن حسين بن علي ، غير أن الشيخ عبدالله المبارك دعا طلاب البعثة العراقية وعددهم حوالي ثمانين طالبا إلى وليمة قصر مشرف ، حيث كان قصره ومقر سكنه ، وقد دعا معهم أعضاء مجلس المعارف ، ولما كنت من المدعوين بصفتي عضوا في مجلس المعارف تأخرت في الذهاب مع أهل القنص، واليوم حضر منهم أناس في سيارة يطلبون ذهابي ، وقد عزمت على الذهاب هذا اليوم وقد ركبت سيارة وأتيت بصحبة رجل اعرفه اسمه محمد بن هادي جاء ليتزود لأهل القنص بالزاد، وقد ركبت معه حوالي الساعة التاسعة غروبي .
سارت بنا السيارة مسرعة من الكويت وقد خرجنا من دروازة الجهرة واجتزنا الشويخ ثم مررنا بالجهـــــرة فالأطراف فضليعــــات مسيعيد ثم كملوا له، ثـــم دخلنا أول الدببـــة ثـــم وصلنـــا خبـــراً أم الحمير ثم نزلنا الباطن وخرجنا منه ثم طفنا بالعموجة ومشينا أربع ساعات ونصف الساعة حتى وصلنا خور غنيم بقرب الرخيمية أيضا على الحدود مع العراق وهناك كانت خيام القوانيص، وكان في الخيام عبداللطيف اليوسف النصف وعبدالله بن حسين بن علي ومحمد العبد المحسن الخرافي والسيد عبدالعزيز الزواوي وجماعــة آخرون ، وقد وصلنا حــــــوالي الساعة الثانية بعد غــروب الشمس ( عربي ) وبتنا تلك الليلة .
من تاريخ الكويت
وفي كتاب رجال في تاريخ الكويت للأستاذ يوسف الشهاب ورد ما يلي :
مقابلة مع اللواء عبداللطيف الثويني
-       عند الجواب على سؤال ماذا فعلت الأمن ؟
في الأمن أسست دائرة الجوازات عام 1948 وكانت مستقلة ووضعت فيها موظفين  فلسطينيين منهم موظف اسمه حجازي وآخر زكريا الكردي، ثم أحضرنا هاني قدومي بعد فصل حجازي عن العمل، والادارة أخذت الاستقلال الذاتي برئاسة الشيخ عبدالله المبارك ونائبه الشيخ عبدالله الأحمد، وكانت الجوازات في بطن الصفاة، ونقلت عام 1950 الى محافظة العاصمة، وبعد وفاة الشيخ احمد الجابر ضمت إلينا في (الأمن العام) والجوازات كانت عبارة عن ورقة تصدقها القنصلية البريطانية بعد اصدارها من دائرة الشرطة، وفي عام 1958 تحولت الجوازات كاملة إلى الأمن العام وبدأنا بصرف الجواز الأخضر ثم الأسود ثم تطور إلى الأخضر والأزرق.
-       وسأل الشهاب اللواء الثوينيك قوة الحدود ماتاريخها؟
-       حين تسلمت الأمن العام عام 1953 أسست قوة الحدود التي تسألني عنها ومسؤوليتها تكمن في حفظ الحدود ثم اتسعت هذه القوة مع الزمن حتى عام 1959 حيث فصلت لتؤسس نواة الجيش الحالي، وكان يرأسها الشيخ عبدالله المبارك والشيخ مبارك عبدالله الأحمد، وكنت معهما أيضا، لكن هذه النواة ازدادت ايضا لتشكل وزارة الدفاع في بداية الاستقلال.



النادي الثقافي القومي
سُئل الدكتور أحمد الخطيب عن قصة تأسيس النادي الثقافي القومي ؟
يجيب بعد أن يعود بذاكرته إلى أول خطوة في تأسيس النادي :
لقد كانت البداية في كتابة طلب إلى سلطات الأمن آنذاك ، وتقديمه بأسمائنا كمجموعة تضم الإخوان : أحمد السقاف ومحمد السداح وأحمد زيد السرحان ، وعبدالرزاق البصير ، وعبدالعزيز أحمد العيسى ، ويوسف إبراهيم الغانم ، ويوسف مشاري البدر ، بالإضافة لي ، جميعنا قمنا بكتابة طلب للموافقة على التأسيس عام 1953 م، وقد قام نصف اليوسف وعبدالحميد الصانع بمساعدتنا في تقديمه إلى الشيخ عبدالله المبارك بالأمن العام ، واقترحنا بالكتاب أن تكون رئاسة النادي الفخرية له أيضاً .
هل تتذكر مواقف أخرى ؟
أيضا في أيام العدوان الثلاثي  على مصر في سبتمبر عام 1956 كانت هناك لجنة تضم مندوبين عن أندية الخريجين والمعلمين بالإضافة إلى النادي الثقافي القومي الذي كنت فيه، وكان هناك اتفـــــــــــاق بين هذه اللجنة على القيام بتظاهــــرات وإضرابات تأييدا  لمصر ضد العدوان، وكان الأمر يتطلب بالطبع الحصول على إذن مسبق فذهبت إلى الشيخ عبدالله الجابر ، للتوسط لدى الشيخ عبدالله المبارك من أجل إذن بالتظاهرة .
وعن إضراب العمال في الأحمدي قال : أوقف النفط بعد أن أعلن العمال بالأحمدي الإضراب عن العمل بإنتاجه وشحنه، فأغلقت الأنابيب ولم يصدر النفط لأي سفينة في تلك الأيام، وسادت ميناء الأحمدي حالة من الركود والشلل بعد إضراب العمال .


وسئل عن موقف الإنكليز من الإضراب ومن الموقف الشعبي العام ؟
لم يعلموا أي شيء فقد أعطاهم الشيخ عبدالله المبارك درساً قبل ذلك أثناء أحداث التأميم حين قامت التظاهرات في تلك الفترة .

وفي لقاء مع الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري :
ذكر عن بداية عمله في وزارة الخارجية : بعد الاستقلال من إدارة المعارف ( بيت الكويت بالقاهرة ) طلب مني سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد وسمو ولي العهد الشيخ سعد العبدالله العمل في وزارة الخارجية، وبدأت العمل في عام 1962 م كمدير للإدارة المالية والإدارة القنصلية، وكان موقع الوزارة في ذلك الوقت في بيت الشيخ عبدالله المبارك بالضاحية .
شهادات من الخارج
وكان رد عبدالله المبارك ما يلي :
وفي لقاء مع الأستاذ عقاب الخطيب ( أساتذة في ميدان آخر لعبدالفتاح مليجي ص 64 )
عدنا بعدها لنعمل في الشركة ( نفط الكويت ) وكنت أتقاضى اثنتين وخمسين روبية ونصف الروبية وقد ظللت أعمل فيها مدة عامين 1942-1943، وقد حدث خلاف هنا جعلني أترك العمل، ولابتعادي عن الشركة قصة: كان المسؤول الإنكليزي ( باور ) شخصية لا أنساها من ناحية فهم العمل والتعامل مع العاملين ولما ابتعد عن الشركة جاء بعده آخر يدعى ( واردرو) ولم يكن على مستوى من قبله ولربما كان النقيض له، ومن هنا لابد من التصادم فمشيت. ولكنهم لم يتركوني حيث اتصلوا بالسيد  عبدالله ملا صالح وهو الذي كان يعتبر حلقة الوصل بين الحكومة والشركة ، فاستدعاني واستفسر عن الأسباب التي جعلتني أترك الشركة بالرغم من إنفاقها على تعليمي، ومن حسن حظي أن الشيخ عبدالله المبارك الصباح كان موجودا في الجلسة، فحكيت عن سوء المعاملة والضغط، ثم قلت لست عبدا مملوكا للشركة ، وإذا كانت قد أنفقت على تعليمي، فذلك يعتبر قطرة من بحار المكاسب التي تغترف منها .. تدخل الشيخ عبدالله المبارك وقال "عيالنا ما في حد يفرض عليهم شــيء .. حب يشتغل أهلا .. ما حب يعطى باقي حسابه " كلمته لا تـــرد بالطبع .. وقد أخذت حسابي بالفعل "25 روبية " وبعدها دخلت ميدان التدريس .
وعقاب الخطيب معروف بفكاهته وروحه المرحة عندما كان مدرسا في المباركية والمدارس الأخرى ، فكان من خفة روحه أن أدخل المرح واللعب في تدريسه، فبدل أن يقول لهم في درس الحساب " واحد زائد واحد " كان ينشد قائلا :
دجاجتنا دجاجتنا
سودة مسلمانية
تبيض البيض
على مرح وزوليه .

جريدة القبس عدد 11255
الجمعة 8 اكتوبر 2004

الاثنين، 14 يوليو 2014

كتابات خالد قطمة عن الشيخ عبدالله المبارك


سلام عليك..
 محمد خالد القطمة

في هذا الصباح الباكر حملتك خيوط الفجر إلى عيني، فأفقت لا صاحياً كنت ولا نائماً، كنت كالمأخوذ في وهلة الحلم أجمع صور الذاكرة، وأتحدث إلى شخوصها كما لو كانوا أمامي مستمعين. تعرف أيها الغالي؟ رائعة هي هذه الهنيهة التي تلغي ذاكرة اليوم لتزرع محلها ذاكرة الأمس، في واحدة من أروع ما خلق الله لعبده، فكيف إذا كانت هذه الهنيهة هي أنت يا عبد الله.
ها أنا أفيق وفي كفي حلمي، أركض كالطفل الخائف عند بوابة الساحر، يخشى -لو قرع الباب- أن يجيء المارد إليه دون أن يحمل الهدايا؛ عروساً من اللوز والسكر أو طيارة ورق ملونة تتمايل ذات اليسار وذات اليمين، وفي فمه شهقة الدهشة، ولكنه بالأخير يدق الباب ليسمع الصوت سائلاً: من أنت؟ بالحب، لا بالخوف، يظل صامتاً حتى يرى السائل.. فإذا هو أنت وإذا هو أنا..
عندما أفقت من اللحظة التائهة بين الغفوة والصحوة حسبت أننا كنا معاً في القاهرة قبل عشرين عاماً، يا الله كم هي طويلة سنوات الشوق إلى مكان. أذكر ليلة جاء ذلك العربـي المجهول إلى الفندق وحسب الحرس أنه يريد بك شراً.. وعندما رآك المجهول هـرب إلى الطريـق، يومهـا عرفت كم هـي هيبتـك كبيرة وأنت الأعزل، والبعيد عن كل المناصب التي تمنـع الصواعـق، فقلت: تـرى كيف كان إذن قبل أربعين عمراً من السنين؟
أكاد أستفيق، لكنني أمسك باللحظة، كما الطفل بالنجمة الهاربة ضوءاً فـي السماء.
أتذكر جيداً كيف كانت عفة لسانك غلافاً للكلمات، فلم تذكر أحداً بسوء، ولا شتمت ولا عرّيت واحداً، كان يكفيك من الإدانة أن تصمت وابتسامة مقهورة على الوجه، ولكنها أبداً لم تتحول إلى عبوس الضعفاء. تذكرت كيف عدنا من سفر ودخل عليك، إلى الطائرة، محمد بالبشت والعقال، دمعت عيناك وأنت تحتضن روحك، فإذا سُئلت أجبت: هي المرة الأولى التي أراه فيها رجلاً.
دعني أعترف وما فات الأوان: لقد كنت في عيني رجلاً آخر غير الذي حدثوني عنه أو ذكروه في رواياتهم، وبك أنت عرفت كم هي ظالمة دنيانا! وكم هي ستصبح مظلمة من غير صوتك! بدأت أتلمس قرابة في الروح وفي الفهم وفي القيم العليا، وكان ذلك مصـدر السعادة الذي يحملني إليك في العشية.. وبعد حديث ولقمة خبز عربي وقطعة جبن بيضاء وفنجان شاي، كنت أعود إلى منزلي مفعماً بفرح لا أدري سره ولم أعرف كم عميقاً كان حتى فقدته، ولعلني، في هذه اللحظة الصباحية النادرة أعرف كم كنت موضع حسد كثيرين لأنني كنت إلى يسارك دائماً، قريباً في الموقع، وأنت الأقرب إلى القلب.

هل تعرف أيها الرجل: عندما سألت عنك في مثل هذا اليوم قبل أربعة عشر عاماً وعرفت، أدركت كم ميت الحظ أنا.
هل تعرف يا سيدي الجميل؟ تذكرتك كثيراً في رحلتنا الشهر الماضي إلى القاهرة، لم تكن هناك في الفندق لأخبرك كيف كانت تشرق مثل شمعدان فرعوني فوق المنبر. بالعادة تنتظر إيابي لأحكي لك كيف كان اللقاء وكيف كانت.. هذه المرة عدت إلى الفندق وليس فيه من أخبره الحكاية، فحزنت كثيراً.
تعرف يا صديقي الكبير؟ قبل أيام كنا في خيمة الفرح مع مبارك.. صحبي كلهم سعدوا بالضيافة إلا أنا، كان في قلبي صوت ردعني عن مشاركة الضيوف طعامهم، لقد اشتهيت قطعة "خبزة وجبنة" معـك، وأحسست كأنني أخون العهد لو فعلت غير ذلك وأنت بعيد.
عندي أخبار كثيرة لك، ولكن من حق غيري أن يقولها لك، وأحسب أنها فعلت في ليلها الذي تذكرك فيه كما في النهار.
سـلام عليـك يـا عبدالله المبارك يـوم ولـدت ويـوم رحـلت ويـوم تبعث حيـاً بإذن الله يـا عبـدالله.


خالداً في القلب.. يبقى

محمد خالد القطمة

نحـن فـي مجلسه.. الأوفياء، وما أندر الأوفياء، هناك كل يوم عند الصباح، وفي المساء، ويدخل أحـد كبار التجار مسلّماً، فأترك له مكاني، ويحدجني عبدالله المبارك بنظرة عتب، بعد خروج الضيف يدعوني للعودة إلى المقعد الذي حدده لي منذ أول لقاء، إلى يساره، ويهمس في جد لا يحتمل التأويل: "مكانك أنت حيث أنت، ليس المليونير أحسن منك"، كان وجهه يتهلل لواحد فقط من بين الضيوف القادمين إلى مجلسه؛ الطبيب أو الصحافي أو الشاعر، هؤلاء كانوا عنده في مقام يحب، يحادثهم ويستمع إليهم باحترام.

مرة كنت أستمع إلى كبير الشعر ينشد قصيدته "جمهورية قمعستان" وصوت يجيء من المسجلة يهلل للشعر: "الله .. الله"، وسألت نزار قباني: "من صاحب الصوت الذي يطرب لشعرك كل هذا الطرب؟"، قال: "الشيخ عبدالله، لو تراه وهو يسمع الشعر، يطرب كمن يستمع إلى أغنية". إذن، لم يكـن ليحدد موقـع الآخريـن من نفسه بما يكنزون من المال، بل يرى أن خيرهم من كان من أصحاب العقل والموهبة في أي من ميادينها. ومن وقت لآخر وفي حديثه حين يعـود إلـى الماضـي كان يذكر أهل الصحافة أو الأطباء أو الأدباء بالعرفان، لذلك كان الأقرب إلى رجال الكلمة المطبوعة في لبنان، البلد الذي عشــق بعـد باديـة بلاده. كنا شباباً حين سمعنا باسم الكويت مقروناً باسم عبدالله مبارك الصباح في لبنان، الأرض التي اختار أن يقيم فيها بعد قراره اعتزال الحكم أواسط العام 1961.

"ذهبت إليه مع حمد صالح الحميضي الله يرحمه، قلنا له إن الشيخ يطلب منك عدم السفر والبقاء في مناصبك كلها، لكنه أصر على الاستقالة والسفر صباح اليوم التالي. قال لنا: الطيارة ذاهبة وأنا مسافر مع سعاد التي تحتاج إلى رعاية طبية بمولودها الأول، وحاولنا مرة ثم مرة أن نثنيه عن قراره، بناء لرغبة الشيـخ (عبـد الله السالم)، ولكنه لم يستمع إلينا وظل متمسكاً بقراره، كان عنيد وايد". (من حديث مع السيد عزت جعفر رحمه الله ليلة 18/9/1991).
ولم يكن حمد الحميضي وعزت جعفر وحدهما اللذين حاولا إقناعه بالبقاء في موقعه نائباً للأمير وقائداً للجيش والشرطة، بل انضم إليهما ضباط من الجيش الذي بناه وفي مقدمهم الشيخ مبارك العبدالله الجابر رحمه الله، ولم تقتصر المحاولة على ما تم في قصره الأبيض، ولكن عبدالله المبارك كان قرر اعتزال السلطة والنأي عن موقعه، ولم يتراجع عن قراره، الذي ظل طوال حياته يرفض البحث فيه أو مناقشته أو العودة إلى أسبابه. ما بينه وبين أهله كان بئراً مغلقة لا يفتح عن بابهـا الستـار ولا يـأذن لأحـد بالدخول إلى محرابها، وظل حريصاً على الود، يقلق حين يمرض واحد من أولاد عمومته أو أولادهم.
"شو رقم أبو ناصر الخاص"؟ ويطلب الشيخ عبدالله المبارك الرقم"، طيب طيب، عسى ما شر، والله الأخ خالد أخبرني الحين إنك ما نزلت الوزارة شغلت بالنا، شكراً شكراً، الله يعافيك ويسلمك". (كان الشيخ صباح الأحمد قد تعرض لوجع في ظهره منعه مـن الذهاب إلى مكتبه في وزارة الخارجية في يوم من عام 1988، وحين عرف الشيخ عبدالله المبارك كانت المحادثة بلهفة أخوية واضحة وانشغال صـادق بصحة أبي ناصر).
هكذا كان، ليس مع أهله فحسب، ولكن مع كل الناس، هؤلاء الأوفياء، يسأل عنهـم حين يغيب أحدهم، يسأل عن عائلاتهم، ولا ينسى واحداً منهم. في زمن الأمان كان هذا فعله اليومي، وفي زمن الاختناق، وقت الغزو الصدامي للكويـت لـم يتـرك واحـداً يسأل عنه أولاً، بل هو الذي سأل عنهم جميعاً. "أبو مبارك لولاه غيـر الله مـا يعرف إشصار فينا يا أبو نضال"، بهذا حدثني "أبـو علـي"، وقـد رحنـا نتـذكر عبدالله المبارك في مجلس نجله الشيخ محمد، عندما ضمنا ليل الأحزان إلى رفاق الزمن الجميل.
تعجب من هذا الرجل الذي كان قلبه من صخر، كيف يتحول في لحظة الحنان الأبوي إلى طفل مشبع بالخوف على من حوله. غابت رفيقة عمره عن المنزل في جنيف ساعات في ليل من عام 1987، ولم يكن ذلك من عاداتها، وعندما هجم الليـل بالقلق على عبدالله المبارك كان الهاتف، وكانت على الطرف الثاني: ".. الحين أبشرك، محمد بألف خير في المستشفى، عملنا له عملية الزائدة". وينطلق عبدالله المبارك إلى المستشفى ليبقى فيه حتى طلع الفجر وهو إلى جوار سرير محمد الغارق في نومه بعدما غادر غرفة العمليات. لم تجرؤ سعاد الصباح على إبلاغ أبيه بالخبر قبل الاطمئنان إلى صحة وليدها خوفاً على الأب الذي لا يتسع قلبه للجراح، وقد ظل عمره كله ينزف جرح مبارك الأول، الذي يبتسم له في كل زاوية من غرفـة نومـه إلى مكتبـه.. وإلى قلبه حيث يحمل القلب.
وأقول مرة أخرى: تعجب من هذا الرجل الذي كان قلبه من صخر وحنان كم كان شجاعاً هو.
كنا في فندق هيلتون النيل عام 1985 كما أذكر، يدخل الأخ أحمد أبو حديدة الذي كان يرافقه في سفره ليقول: "إن هناك رجلاً يتصرف بشكل عصبي ومريب، يطلب مقابلته على انفراد، ويقول إن لديه ما يقوله للشيخ، جنسيته عربية؛ بالأرجح إنه من العراق أو من الأهواز".
ويأمر الشيخ بإدخال الرجل إلى الغرفة المجاورة لصالونه في الطابق العاشر، ويذهب إليه وحيداً وعلى عجل إلى حد أنه لم ينتعل، يدخل عليه ويسأله عما يريد؟ "لدي معلومــات هامـة أريـد أن أبلغهـا لشيـخ الكويـت"، ويجيبه عبدالله المبارك: "أنا عمه وإذا كان عندك شيء قله، فإذا كان مهم صدج أرسلتك إلى الأمير في الكويت". ويهرب الرجل من الجواب ثم يهرول خارجاً من الغرفة، وهارباً من الفندق، يطارده رجال الحرس الخاص الذي كانت الرئاسة المصرية تخصصهم لحمايته دون علمه ودون إذنه. بقي ذلك تقليداً أمر به صديقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يحرص على إحاطته بالرعاية والاهتمام تقديراً لموقفه من مصر الثورة، ولما قدمه لها، في صمت، لمواجهة بعض حالات الضرورة التي كان يستشعرها، فلا يقف أمامها خطيباً، بل يؤدي واجبه بعيداً عن الضوء وبعيداً عن كل عين إلا عين عبد الناصر، رحمه الله. لا أقول ذلك لأكشف سراً، فعطاء عبدالله المبارك للقضايا العربية لا يسجل في فاتورة، وليس هذا هو الهدف في أي حال، وليس هو الذي يرضى لو فعل أحد. كان أشد الناس حرصاً على أن يبقى ما يعطيه سراً لا يعرف به غير رفيقة عمره التي تفقد ذاكرتها حين يصل بنا الحديث إلى ساعات البذل القومي والعطاء الشموخ.
أتذكره، وكم أفعل على مدى الأيام التي مضت منذ رحيله فجر الخامس عشر من حزيران 1961.
أتذكره، وأحزن لأن الرجل كان رفيق الروح على مدى عشر سنوات، غنية كانت بالحوار وباسترجاع الماضي دون حسرة عليه، بل بالمحبة وبالخوف مما قد يجيء، وغنية بلمسات المحبة والاحترام والسخاء، يغدقه عليك حين تسد الدنيا بوابة الأحلام فيفتحها أبو مبارك في حياء.
أتذكره اليوم، وأدير الطرف صوب باب البيت، حيث جاءني في السابعة من صباح الثاني من شهر شبــاط (فبراير) 1987 معزياً برحيل الأم. كبيراً كان وكبيراً خالداً سيبقى في الذاكرة وفي القلب هذا الرجل.
15/6/2004


رمضان والرجل الغائب الكبير
ها هو رمضان يعود، وللمرة الثانية لست معنا. للصائمين نهار طويل، يقصره المؤمن بالصبر والصلاة، ولمثلي فإن ليل رمضان هو الذي يطول بي، بعدما اختصر غيابك منه ساعات كنت أفرح بلقائك فيها والحديث إليك بعد إفطارها، والاستماع إلى ذكرياتك التي لم تجرح يوماً بها اسماً ولا عبرت على اللسان إساءة. كنت أحس أن نزيفاً يكاد يترافق والذكريات، بعضها على الأقل، ولكن لله أنت كيف كنت تستعيض عن ذكر السيئة بالآهة أو بهزة الرأس وابتسامة فيها من الحزن أكثر مما فيها من الفرح. كنا نختلف في رأي حول قضية، وكان يسعدني كيف ترضى بالخلاف، فلا يترك في وجهك غضباً ولا في صوتك عتباً. ويقولون لي اليوم إنك بعد أن أترك مجلسك كنت تقول: "تمنيت لو يغير يوماً رأيه"، فكيف أنسى هذه الشهادة الكبيرة منك لي، وما أنا الذي ينسى كيف كنت تحيطني بكل هذا القدر من المحبة والإيثار، فتختار لي مقعداً إلى يسارك لا يشغله سواي وقت حضرت، ولا حين أجيء من غير موعد، وكيف لي أن أنساك، وأنت الذي كنت تسأل: "من جاء إلى المجلس"، فإذا قيل لك إنني أول القادمين، عجلت في حضورك لأكسب المزيد من الوقت في الاستماع إليك، ونحن وحيدان، نرقب ما يدور ونتمنى خيراً منه وأفضل غد لهذا البلد الذي أحببت في كل ساعة من عمرك.
اليوم يوم من أيام رمضان، أفتقدك إذ أحمل نفسي في محبة إلى دارك، لي العزاء، لنا كلنا العزاء في أنها تحمل الراية بعدك، وأن الوجوه الوفية التي أحببت جاءت اليوم، وكل يوم تجيء، فتذكرك بالرحمة، وفي الصدر تنهيدة إيمان.              


في ذكرى رحيله الحادية عشرة
عبدالله المبارك.. بعض ما كان..
محمد خالد القطمة
بغياب الشيخ عبدالله مبارك الصباح، تغيب حقبة من تاريخ الكويت، كانت هي الأكثر اضطراباً وبحثاً عن الطريق لشعب اختار له القدر أن يقع في فم الخطر.
مبارك الصباح الذي ميزه الكويتيون بتسميته "مبارك الكبير" عرفاناً لدوره السياسي الخطير في تأسيس الدولة الكويتية ووضع حجر الأساس لاستمرار كيانها السياسي المستقل في خضم تيارات الطمع بابتلاعها والهيمنة عليها، كان ترك لأبنائه ميراث الصراع مع القوى المحلية والأجنبية الساعية إلى جعل الكويت إمارة تابعة أو كياناً مطيعاً لهذه القوة أو تلك. وكانت الكويت بعده تبحث عن طريقها إلى النجاة من المخالب والأنياب التي تحيط بها، حتى وقبل ظهور النفط، الثروة المثيرة لشهوات الضم أو الطاعة.

في أوائل الثلاثينيات أخذت الأرض في الخليج العربي وفي الجزيرة العربية وفي الأحواز تبوح بسرها الأسود، مما جعل الصراع على الكويت وما حولها يزداد ضراوة وحدّة، الأمر الذي تطلب بحث قوى الصراع عن قوى محلية داخل الكويت تكون مرتكز التحرك الخارجي وأداته في آن واحد معاً. وكانت القوى المحلية، والأصح التيارات المحلية تبحث هي ذاتها عن مصدر قوة خارجية يسند تطلعها إلى إصلاح النظام أو تغييره، وإن كانت لم تجهر كلها بذلك لافتقارها إلى التعاطف الشعبي مع مثل هذا المطلب. وعندما وجدت المعارضة السياسية منفذاً لها في طرح الدعوة إلى الاتحاد مع العراق، أو ضم الكويت إلى العراق عملياً، وجدت في حكم آل الصباح خصماً صلباً أجهض التحرك في اتجاه الاتحاد أو الضم، وكان من الممسكين بسيفه عبدالله المبارك الصباح، الابـن القـوي في ساحـة الحياة الكويتية آنذاك.
كـان عبـدالله بن مبارك الكبير في الخامسة والعشرين من عمره بالتقريب آنذاك، ولكن ذلك الشـاب كان رمـزاً لاستمـرار أبيه، وكان طلع على الدنيا عاشقاً للبادية ولأهلها، ولتقاليد بادية الكويت وحياتها التي أول ما يميزها الفروسية بكل ما تحمله من عنفوان وقيم وممارسة حياتية. وفي حياة القبيلة لا موقع لك إن كنت تنأى عن السيف والخيل والعطاء، لذلك كان عبدالله المبارك قريباً إلى أهل البادية الذين يعايشهم أيامهم، ويجدون فيـه الرجل المحقق لمفهوم الحياة عندهم بالممارسة الفعلية. أما شخصيته القوية وشجاعته والتفاف البادية حوله فقد أعطته الموقع الذي احتله بصفته الرجل الثاني في نظام الحكم الأسري في الفترة من أول الخمسينيات حتى قراره الاستقالة والاعتزال في حزيران/يونيو العام 1961، وبذلك كان الشيخ عبدالله أصغر ولي عهـد فـي تاريـخ الكويت، إذ تولى منصب نائب الأمير وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وهي سن مبكرة نسبياً لتولي هذا المنصب في دولة سياسية متميزة بين مثيلاتها في هذا الجزء من العالم العربي.
ولم يكن عبدالله المبارك بعيداً أبداً عن رؤية المستقبل، لذلك فإن ما يلفت النظر هو سعيه إلى احتضان العرب في الكويت وتعزيز وجودهم فيها، مع إقامته جسور علاقات سياسية مع عواصم عربية أبرزها القاهرة ودمشق، ولعل هذه العلاقات الطموحة والموقف القومي من الحضور العربي في الكويت كانت في أساس توتر علاقته مع بريطانيا التي كانت حتى أوائل الستينيات تملك القرار السياسي في الكويت وتمارس دور الموجه الفعلي له. وعندما استقال الشيخ عبدالله المبارك الصباح من منصبه واعتزل العمل السياسي كانت الظاهرة المرافقة هي صمته عن الخوض في أسباب أو تفاصيل الحدث الذي هز الكويت في حينه، وابتعاده عن عملية التشويه أو التشويش أو التحريض ضد السلطة الشرعية في بلده، في سلوك لم يعهده العرب لا في تلك الحقبة ولا بعدها. كان قراره اعتزال السلطة مع التمسك ببقائها شرعية صباحية في الكويت، ولم يخرج عن هذا الصراط في لحظة غضب أو في لحظة طموح، كانت مصلحة الكويت الحرة المستقلة هي خياره الأول الذي جر عليه متاعب الصدام مع بريطانيا، ومع غيرها، أولاً، وظل خياره الأخير.
الشعـر طريق التعـارف
إذا كانت طموحات الصحافي هي التي تقوده إلى رجال في سوية الشيخ عبدالله مبارك الصباح، فقد قـدر لي أن يكون الشعر هو طريقي إلى التعرف إليه، من خلال الاتصال المهني بالسيدة عقيلته الشاعرة سعاد الصباح، ومنذ عرفته في أواسط العام 1984، حرصت على أن أذهب إليه مستمعاً لحديث من الذكريات أو حديث عن الكويت التي يخاف عليها من غد تتجمع حوله عواصف الغموض والرغبة في وأد مشعل الحرية والتفتح الذي تحمل. وقد أتيح لي أن أسجل شريطَي ذكرياته في جنيف، ولكنه حين علم بوجود الشريطين طلب إليّ إعادتهما إليه ففعلت راضيـاً.
كان خوفه على الكويت، ليس من قوى خارجية تسعى لتدميرها وحسب، بل كان يخاف عليهـا من تراكم سلبي داخلي يؤدي إلى إعطاء القوى الخارجية الفرصة للتواطؤ عليها. وقد جلست إلى هذا الرجل مئات الساعات، على مدى سبعة أعوام، فما شعرت به يوماً مطمئناً إلى غد الكويت ولا إلى النوايا القريبة والبعيدة تجاهها.
كان يرى في غياب جـمال عبد الناصـر غيـاب الضمانة العربية، ليس للكويت فقط ولكن للعروبة. وكان يحزنه غياب الملك فيصل، ويرى أن من سوء طالع العرب أن يغيب الرجلان في زمن واحد. وعندما كـان يحدثني عن الترابط المصيري للكويت مع عروبتها وعربها، كنت أستذكر كيف خرج الشيخ عبدالله المبارك مرحباً باللبنانيين القادمين على أول رحلة لطائرة الشرق الأوسط، فأمر بالسماح بالدخول لمن لا يحمل الفيزا من السفارة البريطانية في بيروت، وبإعادة من ذهب إلى تلك السفارة يطلب تأشيرة الدخول إلى الكويت، قائلاً: "الكويـت بـلاد العـرب"، وهو الشعار الذي كان للكويت عنواناً فـي زمنـه.
ومن بين كل الصور التاريخية التي تحفل بها مكتبة وجدران صالونه الخاص في الطابق الثاني من القصر الأبيض، فإن صورة واحدة ظلت وحيدة في ديوانه الرئيس هي صورة جمال عبد الناصر، تجاورها صورة للكويت التقطت من سفينة الفضاء الأميركية وقدمت إليه تذكاراً، ولعله في هاتين الصورتين كان يقول لنفسه وللآخرين: الكويـت والعروبـة توأمان.
سنــة المجلـس
تعتبر سنة المجلس نقطة تحول في التاريـخ السياسي الحديث للكويت. إنها تاريخ كامل في حدث، فقد حشد بعض التجار كل زخمهم السياسي إلى جانب المطالبة بدعم العراق لهم ضد كلمة الشيخ أحمد الجابر، والذي فسر على أنه يقارب المطالبة بضم الكويت إلى الحكم العراقي زمن الملك غـازي بـن فيصـل بن الحسين، شريف مكة الذي خرج من الحجاز إلى الأردن مهزوماً. وراح الإنجليز الذين كانوا يتحكمـون بمصائر الشعوب العربية آنذاك بالتحالف وبالتنـافس مـع فرنسا، راحوا يبحثون عـن منصـة نفـوذ جديـدة لهم ولشريـف مكة. حاولوا أن يثبّتـوا فيصـل على عرشه في دمشق فقاومت فرنسا حتى أخرجته إلى العراق، فارتضاه العراقيـون ملكـاً، بينمـا كان أخوه عبدالله يجد إمارة له في الأردن الصغـيرة، كـان الهاشميـون يمثلـون لشعـوب الهلال الخصيـب التـاج العربي الوحيـد الـذي عـرفـوه في مقـابـل النفـوذ الأجنـبي المتمثــل فـي تحالف بريطانيا وفرنسا المتجسد فـي معاهـدة سايكس-بيـكو ومـا تـلاها مـن تثبيـت لـلاحتـلال والانتـداب البريطـاني-الفرنسي في لبنـان والشـام وفلسطـين والأردن والعـراق. كانت الحجـاز مستقـلة بقيـادة آل سعـود، والكويـت مستقلـة بقيـادة آل الصبـاح، ولكن عيـون الهاشميين كانت علـى كـل بقعـة؛ كانـت علـى الشـام حلمـاً لعبـدالله بعـد خـروج أخيـه فيصل، وكان لغازي على الكويت عين أخرى، ساعده في التطلع إليها طموح طبقة من تجار الكويت إلى إلحاق الكويت بالعراق، ضماً أو اتحاداً.
وقد بعث عدد مـن أعضـاء المجلس التشريعي بمذكـرة سياسية خطيرة تعلن رغبتهم في الحصول على عون عراقي أو ما فسر على أنه مطالبة بقيام اتحاد بين العراق والكويت إلى الملك غازي في بغداد، أو في ضم الكويت للعراق، كما يقول المرحوم السيد عزت جعفر في حديثه إليّ مساء يوم الأربعاء 18/9/1991. و صر السيد عزت جعفر الذي عايش تلك الحقبة بتفاصيلها الدقيقة من موقعه القريب إلى جانب حاكم الكويت آنذاك المرحوم الشيخ أحمد الجابـر يصر على القول إن المذكرة التي رفعها التجار تطالب بضم الكويت إلى العراق، أي بإلغاء حكم الصباح وجعل الكويت جزءاً من مملكة غازي. وكانت تلك المذكرة هي المفصل التاريخي الذي أدى إلى ما عرف بـ"سنة المجلس"، ففي الوقت الذي راح فيه أعضاء بارزون في المجلس التشريعي الذي يرأسه الشيخ عبدالله السالم الصباح رحمه الله، يطالبون بالإصلاح الداخلي، كانوا يتابعون الضغط باتجاه العلاقة الخاصة مع الحكم الملكي في العراق. هكـذا وكأن الضغـط بهـذه العلاقـة كان تهديداً للشيخ أحمد الجابـر حتى ينصاع لشروط المذكـرة الإصلاحيـة الـتي تقـدم بهـا أعضـاء المجلس إليـه. ويروي السيد عزت جعفر حكايـة الساعـات الدقيقة التي عاشتها الكويـت في يوم السنة-المفصل، يقول: "كنا في مجلس الشيخ أحمد الجابر رحمه الله حين طلب الشيخ علي الخليفة مقابلته لأمـر عاجـل جـداً. ودخل عليه وهو ينتفض غضباً ليقول: هـل يرضيك يا طويـل العمر أن يقول محمد المنيس ما قاله؟ وروى ما نقله له أحـد التجـار وهو شقيق لشخصية كويتية معروفة جداً بيننا اليوم، فلا أريد ذكر اسمه (الكلام للسيد عزت جعفر رحمه الله)". جاء ذلك التاجر إلى الشيخ علي الخليفة وأبلغه أنه قادم لتوه من لقاء ضم الشيخ عبدالله السالم ونفراً من أعضاء المجلس، حيث أبلغهم الشيخ عبدالله أن الشيخ أحمد الجابر مستعد لتلبية كل المطالب التي عرضوها في مذكـرتهم بشـرط أن يقوم هؤلاء باستعادة المذكرة التي رفعوها إلى الملك غازي.
واحتد أحمد المنيس الذي كان يجلس واضعاً رجله اليمنى فوق اليسرى، وأخذ يقول للشيخ عبدالله السالم: يا طويل العمر، بالأمس كان قيصر روسيا يحكم ولكنه عندما رفض التجاوب مـع مطالب الشعب ثار الشعب وطرده هو وأسرته كلها، واليوم نجد هذه الأسرة ضائعة في أوروبا.. منها من يجد قوته، والبعض يعمل في المطاعم والمقاهـي.. صـاروا بويـات (أي صبية) في القهوة، ما عندهم مصرف (أي مصروف) يومهم.
وأضاف ناقل الحديث أن أحمد المنيس قد أشار بقدمه اليمنى بما يعني الكنس عند حديثه عن طرد القياصـرة، وأن الشيـخ عبدالله السالم لم يرد عليه بكلمة واحدة، وحمّل الشيخ علي الخليفة حديث الرجل للشيخ أحمد الجابـر الذي قال له: "روح حقق بالموضوع وإذا كان صحيحاً ما قيل عن المنيس أدّبه".
.. وغـادر علي الخليفة قصر دسمان ليأمر بالبحث عن أحمد المنيس ومحمد عبدالعزيز القطامي وجماعة المعارضة الآخرين.
سقط الرجلان قتيلين وجرح يوسف المرزوق واعتقـل رجال بارزون وهرب من هرب إلى البصرة. وأسأل السيد عزت جعفر: "وهل كانت للشيخ عبدالله المبارك يد في مصرع المنيس والقطامي؟"، فيجيب: "لا أبداً. فالذي أمر بقتل أحمد المنيس هو الشيخ علي الخليفة ولم يكن ذلك تنفيذاً لأمر الشيخ أحمد الجابر. لقد سمعت الشيخ أحمد بأذني يقول له: إذا كان صحيحاً أن المنيس قال ذلك أدّبه، ولم يقل له قوّصه، ولكن يبدو أن الشغب الذي رافق عملية الاعتقال وإطلاق النار في السوق قـد استثـار علـي الخليفة وجعله يتصور أن ذلك كان بسبب المنيس فقرر التخلص منه".
إذاً فلم تقترن شجاعة عبدالله المبارك بالدم. ولم يعرف عنه أنه جبن عن مواجهة الخطر في ليل أو الدفع بمرؤوسيه إلى مواقع الصدام وانتظار النتائج في مكتبه أو في ديوانه. وموافقته لم ترتبط بدم مسفوك، ظالماً كان صاحبه أو مظلوماً. كان عبدالله مبارك الصباح صاحب هيبة ونفوذ وسطوة، منحته إياها شجاعة تولد في الإنسان فيمسك بها.
الشجاعـة المسؤولـة
لم تكن الكويت مسرحاً لتيارات الصراع السياسي المحلي فحسب، بل كانت أرض النشاط السياسي لجماعات المعارضة في الدول المجاورة والذين كانوا يجدون فيها ملجأ لهم بحكم موقعها الجغرافي القريب إلى ديارهم، ولكن الكويت كانت تحظر على اللاجئين السياسيين إليها تنظيم نشاطهم الإعلامي والسياسي، فكيف بالعسكري، حتى لا يسيء ذلك إلى علاقاتها مع جيرانها. لهذا فقد كان المعارضون يجيئون إليها دون عناء ويقيمـون دون خـوف حتى إذا خرجوا عن المبدأ الذي ارتضته الكويت لأمنهـا ولمفهـوم حسن الجوار كانت تجد في قانونها ما يـردع الخارجين. ومن بين عناصر المعارضة النشطة عرفت الكويت في الستينيات نشاطاً لأقطاب من حزب "تودة" الشيوعي الإيراني، كانوا لجؤوا إليها هرباً من بطش السافاك، وقد وجدوا في الكويت الأمان الذي ينشده اللاجئ السياسي حين يختار بلداً ما ليكون مستقره الجديد.
ولكن حين بدأ نشاط هذه المجموعة يتحول إلى العلن ويستفيد من الأمان لتنظيم خلاياه في العمل المسلح ضد إيران قرر عبدالله المبارك وضع حد له حتى لا يؤثر نشاطه على سلامة الكويت.
.. "أذكر أنه دخل علي وهو يستعد للخروج من القصـر، قـال: قـد لا أعـود بعـد الليلـة. وتلثم بالكوفيـة وحمل سلاحه وغادرنا، فوقع قلبي على الأرض، كانت ليلة مرعبة بالفعل، خاصة بالنسبة لزوجة لا تزال في شهر عسلها. وعاد ليروي في هدوء وفرح كيف تمت عملية ضبط مجموعة حزب تودة الذين لم يقاوموه بالرصاص كما كان يتوقع. لقد كان هو الذي منحهم الأمان حين جاؤوا هاربين فلم يتصدوا له حين جاءهم مسلحاً يأمرهم بالتهيؤ لمغادرة بلده".
(في حديث مع رفيقته الدكتورة سعاد الصباح عن ساعات الحياة الخطرة مع عبدالله المبارك) * * *
الرجل الإيماني دون حدود
... لا إله إلا الله...
... محمد رسول الله...
...لا إله إلا الله...
... محمد رسول الله...
... لا إله إلا الله...
... محمد رسول الله...
وأترك يد الرجل الكبير ليصعد إلى سيارته في طريقه إلى المطار. كان الشيخ عبدالله المبارك حريصاً على أن يعيد التوحيد باسم الله قبل سفره، وكان لي في بعـض الأيام حظ وداعه وتبادل هذا الدعاء الكريم معه قبل أن يغادر إلى طائرته. كان إيمانياً إلى أبعد الحدود، شديد التسليم بكل أمره إلى الله عز وجل، لذلك لم يكن يعبأ بحزام الأمان على الطائرة، حتى حين تواجه المطبات الهوائية. وأذكر مرة ونحن نعود من القاهـرة وقـد راح عبـدالله المبارك يضحك من خوفي عندما أخذت الطائرة تهبط وتصعد في اجتياز المطب الذي يثير الرعب في قلوب المسافرين إلا هو. وحين تجاوزنا الأزمة سألته كيف لا يدخل الخوف إلى قلبه والطائرة ريشة في مهب الريح؟ فقال ضاحكاً: وهل ينفع الخوف؟ ولم يكن ذلك مظهر الإيمان الوحيد الذي عرفته فيه، فقراءة القرآن تلازمه قبل أن يسلم نفسه للنوم، وقليلاً ما كان نصيبه من النوم الذي هو صاحبـه الذي لا يحب، باستثناء ساعتين يقضيهما بعد تناول طعام الغداء في فراشه، وكانت هذه القيلولة الطويلة نسبياً هي ساعات نومه الحقيقي. أما الليل فلم يكن له في ساعاته نـوم طويل: "لقد تعودت السهر حتى الفجر منذ أيام الشرطة"، وكم كثيرة كانت حالات تركه القصر ليركب سيارة الفولكسواغن الصغيرة ويدور في شوارع الكويت وصوب سورها برفقة سائقه فقط ليطمئنّ إلى حال الأمن والأمان الـتي حـرص عليها طوال سنوات توليه سلطة الأمن والقوات المسلحة في البلاد.
... عجيبة إنسانيته وحنانه.. هذا الرجل الصلب الذي لا يخشى الخطر ولا يخاف قضـاء الله بالمـوت يتحـول إلى كتلة من الحنان حين ينظر أمامه أياً من أولاده: محمد وأمنية ومبارك والشيماء. كنت ترى في عينيه حين يطل أحدهم ليقبل رأسه ووجنتيه استئذاناً بالذهاب إلى غرفته للدراسة أو للنوم، كنت ترى بريق الحنان يشرق حتى يغيب ابنه أو ابنته عن ناظريه.
هبطت بنا الطائرة في مطار الكويت ونحن نعود من القاهرة في مطلع العام 1986، من المشاركة الأدبية لرفيقة عمره في معرض الكتاب، وتتوقف الطائرة ويدخل إليها نجله محمد، كانت المرة الأولى التي يراه فيها وهو يرتدي الكوفية والعقال والبشت، وشهق عبدالله المبارك ودمعت عينه ثم تماسك ونجله يقبّل يده ورأسه وسكت. لعل سكين الذكريات ذبحت قلبه من جديد وهو الذي زين القلب بصورة نجله الكبير الشيخ مبارك الذي اختاره الله إلى جواره في 22/6/1973، وكانت وفاته نقطة تحول كبيرة في حياة عبدالله المبارك ورفيقة عمره الدكتورة سعاد الصباح، التي حملت فجيعتها إلى كل أم من خلال مرثية اللوعة التي سجلتها لذلك الحادث المرعب في ديوانها "إليك يا ولدي".
لقد كان مبارك معها على الطائـرة حين نـاداه ربـه إليـه وهي تحضنه إلى الصدر حياً ومسافراً إلى عالم الغائبين، فكانت اللحظة أقسى من أن تكتبهـا بكلمة النثر، وأكبر حتى من حروف الشعر.
للمرأة كل الاحتــرام
لم يكن عبدالله المبارك أول الخارجين على قانون القسوة القبلي، بل هو الأول في الاعتراف بدور الأم الكبير في حياة الأسرة، الصغيرة والكبيرة. لقد كان يحيط سعاد الصباح، زوجه وصدر مجلسه، بالإكبار وينصت إليها وهي تتحدث عرضاً لموقف أو لرأي في السياسة ولو كان بين موقفها وبين ما يراه كبير اختلاف. كان يراهن على التخوف من مسحة التفاؤل والثقة التي تغلف حديثها، ولكنه لم يقاطعها في حديث ولم يقطع في الرأي انطلاقاً مـن كونـه شيـخ القبيـلة ووريث كبيرها وصاحب سيفه. وسيبقى سلوكه الحضاري هذا سمة بارزة في تاريخه وشهادة كبيرة له ضد القانون الذي ولد في خيمته ثم خرج عليها وعليه: "لقد أعطاني كل شـيء، كل ما أنا فيه مدينة به لأبي مبارك". من كلام منشور ومسموع للدكتورة سعاد الصبـاح عـن عبدالله المبارك في حياته و بعد غيابه.
وكنت أحس الزهو في عينيه وهو يتابع البث المباشر لمهرجانات الشعر التي شاركت فيها، كما كنت أحس قلقه عليها حين تتوجه لإحياء أمسية شعرية. كان شديد الخوف عليها، وبعض هذا الخوف كان على مدى النجاح الذي تصيب: "كيف كان الحضور،  كيف تقبلوا شعرها؟"، بهذا كان يسألني حين يصدف أن أسبقها إليه عائداً من الأمسية الشعريـة.
وكنت أستشعر عمق الراحة التي يحس بها للنجاح الذي تجيء به الأخبار قبل ما يشاهده تكراراً على شاشة التلفزيون من تسجيل يحملونه إليه في يوم لاحق. ولم يكن هذا الإكبار قصراً على الشاعرة رفيقة عمره بل كان لشخصها وللمرأة إنساناً، تشهد له بذلك مئات الصور التذكارية مع زعماء العالم، وتلك الصورة الفريدة لهما مع البابا يوحنا الثالث والعشرين في الفاتيكان. لقد تحولت المرأة عنده إلى رفيق درب ووسام حياة يتباهى به ويزهو في كبر الرجال الكبار.

واسمــك يطلـع ولن يغيــب
محمد خالـد القطمـة
تلبس الشمس حزني فيمتلئ جرحها بالسواد.
اليوم سافر تاركاً وراءه كل شيء؛ الحب والمحبة، العطاء والكبرياء، الشهامة ووداعة الطفل. الصمت كان أكثر ما يحب عندما تخلو الطيور إلى المهاجع وتذهب الريح في رحلة السندباد.
كان رجلاً ولكنه كان شيئاً آخر غير الرجال.
كان سيفاً ينحني للمسة وفاء ونجماً مشرقاً في ذاكرة النهار.
عرفته لعشر، أحسبها دهوراً لا سنين؛ اللحظة معه ممتلئة بنعمة الكبر، لهذا تبدو طويلة ومتشعبة العيون.
كل ساعة أقرؤها اليوم شهراً، لماذا لم أعرفه من قبل؟ لماذا عرفته؟ ترى هل يملك النهر ماءه أم العكس؟
أيها الصديق الكبير.. كم تتغير الدنيا معك! وكم تغيرت بعدك!
يشرق الليل علينا ونحن في حوار، لا كلمة تجرح أحداً.
السكين في الحلق تدمي صاحبها، ولكنه يأبى أن يرتاح لو أخرجها للطعن.
في السابعة والسبعين كان حين افترقنا على موعد، ليس من عاداته الكذب ولا إخلاف المواعيد.
هذه المرة ارتكب المعصية بحق القلب، سافر دون وداع.
ترك لي حزناً يزيّن صورته التي أزهو بها قبالة العين كل صباح.
ترك الذكريات الجميلة لبعض عمر جميل، والجمال عمره دائماً أقصر من الحلم.
يسألك: كيف أنت، كيف حالك؟ يريدك أن تطلب شيئاً ليعطيه، إذا تمنعت بانت في عينيه الحسرة، غريب أنت أيها الرجل! يصر على استدراجك إلى التمني، يلح في اشتهاء التلبية.
يعشق العطاء كما يعشق غيره الأخذ، الفارق بين الاثنين هو.
مرة وحيدة سحبني من صمتي إلى النطق، آه كم هو كبير، آه كم هو صعب أن تهرب من كفيه.
عبدالله المبارك أنت هو المطلوب وأنت هو الطالب، كيف؟
الغيمة لا تهرب من مطرها، هذا أنت.
وحده الله يعرف سر العجينة التي خميرتها منها وفيها.
اثـنا عشر عاماً طويلة كأنها هي الدهر، كأنها هي العمر.
يا آخر السيوف! أمام ذكراك تطلع جبهتي من خلف الغيم، الشمس تطلع أيضاً واسمك يطلع ولن يغيب.

الكويت: 15/6/2003