الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

خالداً في القلب يبقى

 


محمد خالد القطمه

 

نحـن فـي مجلسه الأوفياء ، وما أندر الأوفياء ، هناك كل يوم عند الصباح ، وفي المساء . ويدخل أحـد كبار التجار مسلماً فأترك له مكاني ويحدجني عبد الله المبارك بنظرة عتب . بعد خروج الضيف يدعوني للعودة إلى المقعد الذي حدده لي منذ أول لقاء ، إلى يساره . ويهمس في جد لا يحتمل التأويل : " مكانك أنت حيث أنت . ليس المليونير أحسن منك . " كان وجهه يتهلل لواحد فقط من بين الضيوف القادمين إلى مجلسه : الطبيب أو الصحافي أو الشاعر . هؤلاء كانوا عنده في مقام يحب . يحادثهم و يستمع إليهم باحترام .

 

مرة كنت أستمع إلى كبير الشعر ينشد قصيدته " جمهورية قمعستان " وصوت يجيء من المسجلة يهلل للشعر : " الله 00 الله " . وسألت نزار قباني : " من  صاحب الصوت الذي يطرب لشعرك كل هذا الطرب ؟"  قال : " الشيخ عبد الله . لو تراه وهو يسمع الشعر . يطرب كمن يستمع إلى أغنية " . إذن ، لم يكـن ليحدد موقـع الآخريـن من نفسه بما يكنزون من المال ، بل يرى أن خيرهم من كان  من أصحاب العقل والموهبة في أي من ميادينها . ومن وقت لآخر وفي حديثه حين يعـود إلـى الماضـي كان يذكر أهل الصحافة أو الأطباء أو الأدباء بالعرفان ، لذلك كان الأقرب إلى رجال الكلمة المطبوعة في لبنان ، البلد الذي عشــق بعـد باديـة بلاده . كنا شباباً حين سمعنا باسم الكويت مقروناً باسم عبد الله المبارك الصباح في لبنان ، الأرض التي اختار أن يقيم فيها بعد قراره اعتزال الحكم أواسط العام 1961 .

( 1 )


" ذهبت إليه مع حمد صالح الحميضي الله يرحمه . قلنا له أن الشيخ يطلب منك عدم السفر والبقاء في مناصبك كلها . لكنه أصر على الاستقالة والسفر صباح اليوم التالي . قال لنا : الطيارة ذاهبة وأنا مسافر مع سعاد التي تحتاج إلى رعاية طبية بمولودها الأول . وحاولنا مرة ثم مرة أن نثنيه عن قراره ، بناء لرغبة الشيـخ ( عبـد الله السالم ) ولكنه لم يستمع إلينا وظل متمسكاً بقراره . كان عنيد وايد ". ( من حديث مع السيد عزت جعفر رحمه الله  ليلة 18/9/1991).
ولم يكن حمد الحميضي وعزت جعفر وحدهما اللذان حاولا إقناعه بالبقاء في موقعه نائباً للأمير وقائداً للجيش و الشرطة ، بل انضم إليهما ضباط من الجيش الذي بناه وفي مقدمهم / الشيخ مبارك العبد الله الجابر رحمه الله . ولم تقتصر المحاولة على ما تم في قصره الأبيض، ولكن عبد الله المبارك كان قرر اعتزال السلطة والنأي عن موقعه ، ولم يتراجع عن قراره ، الذي ظل طوال حياته يرفض البحث فيه أو مناقشته أو العودة إلى أسبابه . ما بينه وبين أهله كان بئراً مغلقة لا يفتح عن بابهـا الستـار ولا يـأذن لأحـد بالدخول إلى محرابها . وظل حريصاً على الود ، يقلق حين يمرض  واحد من أولاد عمومته أو أولادهم. " شو رقم أبو ناصر الخاص" ؟ ويطلب الشيخ عبد الله المبارك الرقم . " طيب طيب . عسى ما شر . والله الأخ خالد اخبرني الحين أنك ما نزلت الوزارة شغلت بالنا . شكراً شكراً . الله يعافيك ويسلمك " .( كان الشيخ صباح الأحمد قد تعرض لوجع في ظهره منعه مـن الذهاب إلى مكتبه في وزارة الخارجية في يوم من عام 1988، وحين عرف الشيخ عبد الله المبارك كانت المحادثة بلهفة أخوية واضحة وانشغال صـادق بصحة أبي ناصر ) .



( 2 )


هكذا كان ، ليس مع أهله فحسب ، ولكن مع كل الناس . هؤلاء الأوفياء ،   يسأل عنهـم حين يغيب أحدهم . يسأل عن عائلاتهم ولا ينسى واحداً منهم . في زمن الأمان كان هذا فعله اليومي . وفي زمن الاختناق ، وقت الغزو الصدامي للكويـت لـم يتـرك واحـداً يسأل عنه أولاً ، بل هو الذي سأل عنهم جميعاً . " أبو مبارك لولاه غيـر الله مـا يعرف اشصار فينا يا أبو نضال " بهذا حدثني " أبـو علـي " وقـد رحنـا نتـذكر عبد الله المبارك في مجلس نجله الشيخ محمد ، عندما ضمنا ليل الأحزان إلى رفاق الزمن الجميل .
تعجب من هذا الرجل الذي كان قلبه من صخر ، كيف يتحول في لحظة الحنان الأبوي إلى طفل مشبع بالخوف على من حوله . غابت رفيقة عمره عن المنزل في جنيف ساعات في ليل من عام 1987 ولم يكن ذلك من عاداتها . وعندما هجم الليـل بالقلق على عبد الله المبارك كان الهاتف وكانت على الطرف الثاني " 00 الحين أبشرك . محمد بألف خير في المستشفى . عملنا له عملية الزائدة ". وينطلق عبد الله المبارك  إلى المستشفى ليبقى فيه حتى طلع الفجر وهو إلى جوار سرير محمد الغارق في نومه بعدما غادر غرفة العمليات . لم تجرؤ سعاد الصباح على إبلاغ أبيه بالخبر قبل الاطمئنان إلى صحة وليدها خوفاً على الأب الذي لا يتسع قلبه للجراح ، وقد ظل عمره كله ينزف جرح مبارك الأول ، الذي يبتسم له في كل زاوية من غرفـة نومـه إلى مكتبـه 00 وإلى قلبه حيث يحمل القلب .

وأقول مرة أخرى : تعجب من هذا الرجل الذي كان قلبه من صخر وحنان    كم كان شجاعاً هو . كنا في فندق هيلتون النيل عام 1985 كما أذكر. يدخل الأخ أحمد أبو حديدة الذي كان يرافقه في سفره ليقول " أن هناك رجلاً يتصرف

( 3 )


بشكل عصبي و مريب يطلب مقابلته على انفراد ويقول أن لديه ما يقوله للشيخ . جنسيته عربي بالأرجح أنه من العراق أو من الأهواز . "
ويأمر الشيخ بإدخال الرجل إلى الغرفة المجاورة لصالونه في الطابق العاشر ويذهب إليه وحيداً وعلى عجل إلى حد أنه لم ينتعل . ويدخل عليه و يسأله عما يريد " لدي معلومــات هامـة أريـد أن أبلغهـا لشيـخ الكويـت " ويجيبه عبد الله المبارك : " أنا عمه وإذا كان عندك شيء قله ، فإذا كان مهم صدج أرسلتك إلى الأمير في الكويت " . ويهرب الرجل من الجواب ثم يهرول   خارجاً من الغرفة ، وهارباً من الفندق يطارده رجال الحرس الخاص الذي كانت الرئاسة المصرية تخصصهم لحمايته دون علمه ودون إذنه. بقي ذلك تقليداً   أمر به صديقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يحرص على إحاطته بالرعاية والاهتمام تقديراً لموقفه من مصر الثورة ، ولما قدمه لها ، في صمت ، لمواجهة بعض حالات الضرورة التي كان يستشعرها فلا يقف أمامها خطيباً ، بل يؤدي واجبه بعيداً عن الضوء وبعيداً عن كل عين إلا عين عبد الناصر ، رحمه الله . لا أقول ذلك لأكشف سراً ، فعطاء عبد الله المبارك للقضايا العربية لا يسجل في فاتورة ، وليس هذا هو الهدف في أي حال ، وليس هو الذي يرضى لو فعل أحد. كان أشد الناس حرصاً على أن يبقى ما يعطيه سراً لا يعرف به غير رفيقة عمره التي تفقد ذاكرتها حين يصل بنا الحديث إلى   ساعات البذل القومي والعطاء الشموخ .
أتذكره وكم أفعل على مدى الأيام التي مضت منذ رحيله فجر الخامس عشر   من حزيران 1961 .
أتذكره وأحزن لأن الرجل كان رفيق الروح على مدى عشر سنوات ، غنية كانت بالحوار وباسترجاع الماضي دون حسرة عليه بل بالمحبة و بالخوف مما

( 4 )


قد يجيء، وغنية بلمسات المحبة والاحترام والسخاء، يغدقه عليك حين تسد الدنيا بوابة الأحلام فيفتحها أبو مبارك في حياء .

أتذكره اليوم وأدير الطرف صوب باب البيت ، حيث جاءني في السابعة من صباح الثاني من شهر شبــاط ( فبراير ) 1987 معزياً برحيل الأم . كبيراً كان وكبيراً خالداً سيبقى في الذاكرة وفي القلب هذا الرجل .

15/6/2004



















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق