الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

سعاد الصباح تسرد قصة حياة وإنجازات الشيخ عبدالله المبارك الصباح

 (صقر الخليج) بإضافات مهمة .. ومسيرة بناء وطن



من جديد تعود د. سعاد الصباح إلى البحث في التاريخ .. التاريخ الكويتي تحديدا، حيث تسبر أغوار مراحل التأسيس وإرساء قواعد بناء الكويت ..
ترحل د. سعاد الصباح مرة أخرى في كتابتها لسيرة زوجها سمو الشيخ عبدالله مبارك الصباح الذي يعد من أهم مؤسسي الكويت الحديثة وواضعي لبنات بنائها العصري المتطور. إذ تدرج في عدد من المناصب الهامة على رأسها منصب نائب الحاكم في أواخر الخمسينيات، بالإضافة إلى رئاسته للأمن العام وتأسيسه للجيش الكويتي
حمل الكتاب عنوان (صقر الخليج .. عبدالله مبارك الصباح) وهو طبعة جديدة مزيدة ومنقحة عما سبق وأصدرته بالعنوان ذاته في عدة طبعات منذ العام 1995.
في الكتاب توثق د. سعاد الصباح مسيرة زوجها سمو الشيخ عبدالله المبارك الصباح، فضمنته أدق تفاصيل حياته منذ ما قبل ولادته بقليل وحتى ما بعد وفاته بقليل، وما رافق ذلك من أحداث شملت معظم سنوات القرن العشرين، وكان لها الأثر الكبير في رسم خريطة الكويت سياسيا واقتصاديا وإنسانيا فضلا عن رسمها جغرافيا أيضا، مع الإشارة للأحداث العالمية الكبرى أو الإقليمية المهمة، ذات الأثر.
يتكون الكتاب مما يقارب من 700 صفحة من القطع المتوسط، وينقسم إلى ستة فصول ومقدمة للطبعة الخامسة مع مقدمة الطبعة الأولى، وكذلك الخاتمة، وصور للوثائق التي تم الاعتماد عليها في توثيق ما ورد في الكتاب، سواء كانت أجنبية أم عربية، بالإضافة إلى الفهارس ومقتطفات من تعليقات الصحافة العربية على الكتاب.
تقدم الكاتبة في هذا الكتاب الضخم حياة زوجها عبدالله مبارك فكأنما تسرد سيرة وطن في رجل، وكلما قرأته هذه الأجيال الشابة تعلمت منه مبادئ الفروسية والرجولة والشجاعة والكرم والوطنية، على اعتبار أن عبدالله المبارك كان منارة عالية، وبرجا من أبراج الكويت يدل المسافرين والسفن والبحارة ويفتح لهم طريق السلامة إلى موانئ القرن الواحد والعشرين.
وقد توجهت المؤلفة بإهداء إنتاجها الفكري هذا إلى "أولاد الرجل الكبير عبدالله مبارك وإلى أحفاده وإلى الأجيال الكويتية القادمة التي ستضيء لها هذه السيرة العطرة معالم الطريق إلى المستقبل"، وقالت: "إنها سيرة رجل عصامي، صنع نفسه وساعد في صنع بلاده وترك لقومه تراثا عظيما يفاخرون به ".
ينظر لعبدالله المبارك على أنه واحد من مؤسسي دولة الكويت الحديثة، وأحد المهندسين الأوائل الذين خططوا وشيدوا، وعمروا، وأقاموا الدعائم الأساسية لكويت ما بعد ظهور النفط.
من الناحية المنهجية للكتاب، سارت د. سعاد الصباح في صفحاته على خطة واضحة المعالم، حيث اختارت في المنهج الأول أن يتم تصنيف الكتاب ضمن كتب التراجم أو السير الذاتية، لأن موضوعه هو "قصة حياة الشيخ عبدالله مبارك الصباح ودوره في بناء الكويت الحديثة". ويبدو جليا للقارئ أن هذا الرجل كان شخصية استثنائية، حيث نجح في الإفلات من "أسر المجتمع التقليدي الذي نشأ فيه"، مع تطلعه إلى آفاق المستقبل الرحبة، ودعم قوى التغيير في الكويت، بل إنه شارك في صنعها، مع العلم أنه أصغر أبناء الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت، وهو بذلك عم لكل شيوخ الكويت الذين حكموها منذ العشرينيات من القرن الفائت.
وأما المنهج الثاني، فالكتاب بحث في التطور السياسي والاجتماعي وعملية التحديث وبناء المؤسسات في الكويت، فلم يركز على السمات الشخصية المجردة لصاحب السيرة، وإنما درسها في سياقها الاجتماعي. والكتاب من ناحية ثالثة يبحث في العلاقات العربية والدولية، فيدرس صفحات من تطور الأوضاع العربية، وقضية انضمام الكويت إلى جامعة الدول العربية قبل الاستقلال، ويعرض لجذور الأطماع العراقية في الكويت، وعلاقات التعاون والتنافس في آن بين بريطانيا والولايات المتحدة في منطقة الخليج، وهي علاقات كانت بين قوة استعمارية متراجعة يخفت نفوذها وقوة أخرى شابة صاعدة خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية، وسعت لوراثة نفوذ الدول الأوروبية وبناء إمبراطورية جديدة لها.
تتميز الطبعة الجديدة للكتاب بحرص الكاتبة على متابعة كل ما صدر عن مرحلة الخمسينيات من كتب أو ما تم نشره من وثائق لم تكن متاحة من قبل عند إصدار الطبعات السابقة، وقد استفادت بذلك من الوثائق الجديدة التي نشرها مركز المحفوظات والتراث والتوثيق في كتاب أصدره عن الشيخ عبدالله المبارك عام 2010، وكذلك من كتب السيرة الذاتية لعدد من ضباط الجيش الكويتي الذين تعرضوا بالتفاصيل لعملية بناء الجيش ولدور الشيخ عبدالله مبارك الصباح، ومن المجموعة الكاملة لمجلة الكويت اليوم، والتي كانت بعض أعدادها غير متاحة للكاتبة من قبل.
تقول د سعاد الصباح عن كتابها هذا في طبعته الجديدة: "إن هدفي الوحيد هو إظهار وجه الحقيقة لمرحلة مهمة في تاريخ الكويت".


ويتزامن صدور الكتاب مع افتتاح معرض الكتاب العربي في الكويت

الاثنين، 18 نوفمبر 2013

أبـوك الـذي سـاد الـمـلا فـي زمـــــانه

 قصيدة: تحية للشيخ عبدالله المبارك


شعر عبدالله بن علي الصانع (1902-1954)

خلـيلـيَّ هـذا الـمـجـد لاحت قبـابــــــه ________________________________
  
يكـاد يـنـال النـيِّراتِ عـمـودُهـــــــا ______________________________
هـنـا الجـود والـمعـروف والعُرْف والــحِجَا ________________________________
  
هـنـا العزة القعسـاء جـمٌّ عـديـدهــــا ________________________________
هـنـا مـلجأ العـافـيـن حـيــــــن تَرُوده ________________________________
  
هـنـا مشْرعـاتُ الرفد كلٌّ يرودهـــــا ________________________________
هـنـا معقـل الآمـال والـمـوئل الـــــذي ________________________________
  
له مـنَّةٌ عـندي غزيرٌ مديـدهــــــــــا ________________________________
بعـيـدٌ عـن الـمأثـور ممـا يُشـيـــــــنه ________________________________
  
قـريبُ الندى إن صدَّ عـنهـا بـلـيـدهــا ________________________________
له راحتـا جـودٍ وفضلٍ لـدى الجـــــــــدا ________________________________
  
وكفّاه عضبٌ يـوم يعثـو عـنـودهــــا ________________________________
يـنـال الـذي مـا نـاله قطُّ غـــــــــيرهُ ________________________________
  
إذا سـابقـات العز يَتْلَع جِيـدهــــــــا ________________________________
حـلفتُ يـمـيـنًا بَرّةً غـير كـــــــــــاذبٍ ________________________________
  
بأنك - عبـدَالله - حقّاً عـمـيـدهــــــــا ________________________________
وأنك محـمـود الخـصــــــــــــــال وأنه ________________________________
  
لِـمقتبسـي الـمعـروف مـنك حـمـيـدها ________________________________
تبـاري غمـام الـوسم جـدواك إن هــــــمَى _________________________
  
ويـنشـر مـنهـا نسمةَ الـمسك جـودهـا ________________________________
وكـم لك يـا بن الأكرمـيـن لـدى العـــلا _________
  
مشـاهد مـجـد لـم تُغـيَّبْ شهـودهــــا! ____________________________
أبـوك الـذي سـاد الـمـلا فـي زمـــــانه ________
  
وجـاءته إرغامـا لـدى الأمـر صِيـدهـا _______________________________
«مبـارك» مـن قـد بـارك الله أمـــــــره ________________________________
  
وأبقى لنـا مِ الفخر حـوضًا نرودهــــا ________________________________
ونـال الـتـي مـا لـم يـنل فـي حـيـــاته ___________________________________
  
مـجـارٍ له إلا كبـا مـن يريـدهــــــــا ___________________________________


الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

خالداً في القلب يبقى

 


محمد خالد القطمه

 

نحـن فـي مجلسه الأوفياء ، وما أندر الأوفياء ، هناك كل يوم عند الصباح ، وفي المساء . ويدخل أحـد كبار التجار مسلماً فأترك له مكاني ويحدجني عبد الله المبارك بنظرة عتب . بعد خروج الضيف يدعوني للعودة إلى المقعد الذي حدده لي منذ أول لقاء ، إلى يساره . ويهمس في جد لا يحتمل التأويل : " مكانك أنت حيث أنت . ليس المليونير أحسن منك . " كان وجهه يتهلل لواحد فقط من بين الضيوف القادمين إلى مجلسه : الطبيب أو الصحافي أو الشاعر . هؤلاء كانوا عنده في مقام يحب . يحادثهم و يستمع إليهم باحترام .

 

مرة كنت أستمع إلى كبير الشعر ينشد قصيدته " جمهورية قمعستان " وصوت يجيء من المسجلة يهلل للشعر : " الله 00 الله " . وسألت نزار قباني : " من  صاحب الصوت الذي يطرب لشعرك كل هذا الطرب ؟"  قال : " الشيخ عبد الله . لو تراه وهو يسمع الشعر . يطرب كمن يستمع إلى أغنية " . إذن ، لم يكـن ليحدد موقـع الآخريـن من نفسه بما يكنزون من المال ، بل يرى أن خيرهم من كان  من أصحاب العقل والموهبة في أي من ميادينها . ومن وقت لآخر وفي حديثه حين يعـود إلـى الماضـي كان يذكر أهل الصحافة أو الأطباء أو الأدباء بالعرفان ، لذلك كان الأقرب إلى رجال الكلمة المطبوعة في لبنان ، البلد الذي عشــق بعـد باديـة بلاده . كنا شباباً حين سمعنا باسم الكويت مقروناً باسم عبد الله المبارك الصباح في لبنان ، الأرض التي اختار أن يقيم فيها بعد قراره اعتزال الحكم أواسط العام 1961 .

( 1 )


" ذهبت إليه مع حمد صالح الحميضي الله يرحمه . قلنا له أن الشيخ يطلب منك عدم السفر والبقاء في مناصبك كلها . لكنه أصر على الاستقالة والسفر صباح اليوم التالي . قال لنا : الطيارة ذاهبة وأنا مسافر مع سعاد التي تحتاج إلى رعاية طبية بمولودها الأول . وحاولنا مرة ثم مرة أن نثنيه عن قراره ، بناء لرغبة الشيـخ ( عبـد الله السالم ) ولكنه لم يستمع إلينا وظل متمسكاً بقراره . كان عنيد وايد ". ( من حديث مع السيد عزت جعفر رحمه الله  ليلة 18/9/1991).
ولم يكن حمد الحميضي وعزت جعفر وحدهما اللذان حاولا إقناعه بالبقاء في موقعه نائباً للأمير وقائداً للجيش و الشرطة ، بل انضم إليهما ضباط من الجيش الذي بناه وفي مقدمهم / الشيخ مبارك العبد الله الجابر رحمه الله . ولم تقتصر المحاولة على ما تم في قصره الأبيض، ولكن عبد الله المبارك كان قرر اعتزال السلطة والنأي عن موقعه ، ولم يتراجع عن قراره ، الذي ظل طوال حياته يرفض البحث فيه أو مناقشته أو العودة إلى أسبابه . ما بينه وبين أهله كان بئراً مغلقة لا يفتح عن بابهـا الستـار ولا يـأذن لأحـد بالدخول إلى محرابها . وظل حريصاً على الود ، يقلق حين يمرض  واحد من أولاد عمومته أو أولادهم. " شو رقم أبو ناصر الخاص" ؟ ويطلب الشيخ عبد الله المبارك الرقم . " طيب طيب . عسى ما شر . والله الأخ خالد اخبرني الحين أنك ما نزلت الوزارة شغلت بالنا . شكراً شكراً . الله يعافيك ويسلمك " .( كان الشيخ صباح الأحمد قد تعرض لوجع في ظهره منعه مـن الذهاب إلى مكتبه في وزارة الخارجية في يوم من عام 1988، وحين عرف الشيخ عبد الله المبارك كانت المحادثة بلهفة أخوية واضحة وانشغال صـادق بصحة أبي ناصر ) .



( 2 )


هكذا كان ، ليس مع أهله فحسب ، ولكن مع كل الناس . هؤلاء الأوفياء ،   يسأل عنهـم حين يغيب أحدهم . يسأل عن عائلاتهم ولا ينسى واحداً منهم . في زمن الأمان كان هذا فعله اليومي . وفي زمن الاختناق ، وقت الغزو الصدامي للكويـت لـم يتـرك واحـداً يسأل عنه أولاً ، بل هو الذي سأل عنهم جميعاً . " أبو مبارك لولاه غيـر الله مـا يعرف اشصار فينا يا أبو نضال " بهذا حدثني " أبـو علـي " وقـد رحنـا نتـذكر عبد الله المبارك في مجلس نجله الشيخ محمد ، عندما ضمنا ليل الأحزان إلى رفاق الزمن الجميل .
تعجب من هذا الرجل الذي كان قلبه من صخر ، كيف يتحول في لحظة الحنان الأبوي إلى طفل مشبع بالخوف على من حوله . غابت رفيقة عمره عن المنزل في جنيف ساعات في ليل من عام 1987 ولم يكن ذلك من عاداتها . وعندما هجم الليـل بالقلق على عبد الله المبارك كان الهاتف وكانت على الطرف الثاني " 00 الحين أبشرك . محمد بألف خير في المستشفى . عملنا له عملية الزائدة ". وينطلق عبد الله المبارك  إلى المستشفى ليبقى فيه حتى طلع الفجر وهو إلى جوار سرير محمد الغارق في نومه بعدما غادر غرفة العمليات . لم تجرؤ سعاد الصباح على إبلاغ أبيه بالخبر قبل الاطمئنان إلى صحة وليدها خوفاً على الأب الذي لا يتسع قلبه للجراح ، وقد ظل عمره كله ينزف جرح مبارك الأول ، الذي يبتسم له في كل زاوية من غرفـة نومـه إلى مكتبـه 00 وإلى قلبه حيث يحمل القلب .

وأقول مرة أخرى : تعجب من هذا الرجل الذي كان قلبه من صخر وحنان    كم كان شجاعاً هو . كنا في فندق هيلتون النيل عام 1985 كما أذكر. يدخل الأخ أحمد أبو حديدة الذي كان يرافقه في سفره ليقول " أن هناك رجلاً يتصرف

( 3 )


بشكل عصبي و مريب يطلب مقابلته على انفراد ويقول أن لديه ما يقوله للشيخ . جنسيته عربي بالأرجح أنه من العراق أو من الأهواز . "
ويأمر الشيخ بإدخال الرجل إلى الغرفة المجاورة لصالونه في الطابق العاشر ويذهب إليه وحيداً وعلى عجل إلى حد أنه لم ينتعل . ويدخل عليه و يسأله عما يريد " لدي معلومــات هامـة أريـد أن أبلغهـا لشيـخ الكويـت " ويجيبه عبد الله المبارك : " أنا عمه وإذا كان عندك شيء قله ، فإذا كان مهم صدج أرسلتك إلى الأمير في الكويت " . ويهرب الرجل من الجواب ثم يهرول   خارجاً من الغرفة ، وهارباً من الفندق يطارده رجال الحرس الخاص الذي كانت الرئاسة المصرية تخصصهم لحمايته دون علمه ودون إذنه. بقي ذلك تقليداً   أمر به صديقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يحرص على إحاطته بالرعاية والاهتمام تقديراً لموقفه من مصر الثورة ، ولما قدمه لها ، في صمت ، لمواجهة بعض حالات الضرورة التي كان يستشعرها فلا يقف أمامها خطيباً ، بل يؤدي واجبه بعيداً عن الضوء وبعيداً عن كل عين إلا عين عبد الناصر ، رحمه الله . لا أقول ذلك لأكشف سراً ، فعطاء عبد الله المبارك للقضايا العربية لا يسجل في فاتورة ، وليس هذا هو الهدف في أي حال ، وليس هو الذي يرضى لو فعل أحد. كان أشد الناس حرصاً على أن يبقى ما يعطيه سراً لا يعرف به غير رفيقة عمره التي تفقد ذاكرتها حين يصل بنا الحديث إلى   ساعات البذل القومي والعطاء الشموخ .
أتذكره وكم أفعل على مدى الأيام التي مضت منذ رحيله فجر الخامس عشر   من حزيران 1961 .
أتذكره وأحزن لأن الرجل كان رفيق الروح على مدى عشر سنوات ، غنية كانت بالحوار وباسترجاع الماضي دون حسرة عليه بل بالمحبة و بالخوف مما

( 4 )


قد يجيء، وغنية بلمسات المحبة والاحترام والسخاء، يغدقه عليك حين تسد الدنيا بوابة الأحلام فيفتحها أبو مبارك في حياء .

أتذكره اليوم وأدير الطرف صوب باب البيت ، حيث جاءني في السابعة من صباح الثاني من شهر شبــاط ( فبراير ) 1987 معزياً برحيل الأم . كبيراً كان وكبيراً خالداً سيبقى في الذاكرة وفي القلب هذا الرجل .

15/6/2004



















سلام عليك . . .


                                               بقلم : محمد خالد القطمه

. . . في هذا الصباح الباكر حملتك خيوط الفجر إلى عيني فافقت لا صاحياً كنت ولا نائماً . كنت كالمأخوذ في وهلة الحلم أجمع صور الذاكرة وأتحدث إلى شخوصها كما لو كانوا أمامي مستمعين . تعرف أيها الغالي : رائعة هي هذه الهنيهة التي تلغي ذاكرة اليوم لتزرع محلها ذاكرة الأمس ، في واحدة من أروع ما خلق الله لعبده ، فكيف إذا كانت هذه الهنيهة هي أنت يا عبد الله .
ها أنا أفيق وفي كفي حلمي . أركض كالطفل الخائف عند بوابة الساحر يخشى لو قرع الباب أن يجيء المارد إليه دون أن يحمل الهدايا : عروساً من اللوز والسكر أو طيارة ورق ملونة تتمايل ذات اليسار وذات اليمين وفي فمه شهقة الدهشة . ولكنه بالأخير يدق الباب ليسمع الصوت سائلاً : من أنت ؟ بالحب ، لا بالخوف ، يظل صامتاً حتى يرى السائل . . فإذا هو أنت وإذا هو أنا . .
عندما أفقت من اللحظة التائهة بين الغفوة والصحوة حسبت أننا كنا معاً في القاهرة قبل عشرين عاماً . يا الله كم هي طويلة سنوات الشوق إلى مكان . أذكر ليلة جاء ذلك العربـي المجهول إلى الفندق وحسب الحرس أنه يريد بك شراً . . وعندما رآك





المجهول هـرب إلى الطريـق . يومهـا عرفت كم هـي هيبتـك كبيرة وأنت الأعزل ، والبعيد عن كل المناصب التي تمنـع الصواعـق فقلت : تـرى كيف كان إذن قبل أربعين عمراً من السنين ؟
أكاد استفيق لكنني أمسك باللحظة ، كما الطفل بالنجمة الهاربة ضوءاً فـي السماء .
أتذكر جيداً كيف كانت عفة لسانك غلافاً للكلمات فلم تذكر أحداً بسوء ولا شتمت ولا عريت واحداً . كان يكفيك من الإدانة أن تصمت وابتسامة مقهورة على الوجه ولكنها أبداً لم تتحول إلى عبوس الضعفاء . تذكرت كيف عدنا من سفر ودخل عليك ، إلى الطائرة ، محمد بالبشت والعقال . دمعت عيناك وأنت تحتضن روحك فإذا سألت أجبت : هي المرة الأولى التي أراه فيها رجلاً .
دعني أعترف وما فات الأوان : لقد كنت في عيني رجلاً آخر غير الذي حدثوني عنه أو ذكروه في رواياتهم . وبك أنت عرفت كم هي ظالمة دنيانا وكم هي ستصبح مظلمة من غير صوتك . بدأت أتلمس قرابة في الروح وفي الفهم وفي القيم العليا ، وكان ذلك مصـدر السعادة الذي يحملني إليك في العشية . . وبعد حديث ولقمة خبز عربي



وقطعة جبن بيضاء وفنجان شاي ، كنت أعود إلى منزلي مفعماً بفرح لا أدري سره ولم أعرف كم عميقاً كان حتى فقدته . ولعلني ، في هذه اللحظة الصباحية النادرة أعرف كم كنت موضع حسد كثيرين لأنني كنت إلى يسارك دائماً ، قريباً في الموقع ، وأنت الأقرب إلى القلب .

هل تعرف أيها الرجل : عندما سألت عنك في مثل هذا اليوم قبل أربعة عشر عاماً وعرفت ، أدركت كم هي قاسية أقداري وكم ميت الحظ أنا .

هل تعرف يا سيدي الجميل : تذكرتك كثيراً في رحلتنا الشهر الماضي إلى القاهرة . لم تكن هناك في الفندق لأخبرك كيف كانت تشرق مثل شمعدان فرعوني فوق المنبر . بالعادة تنتظر ايابي لأحكي لك كيف كان اللقاء وكيف كانت . . هذه المرة عدت إلى الفندق وليس فيه من أخبره الحكاية ، فحزنت كثيراً .




تعرف يا صديقي الكبير : قبل أيام كنا في خيمة الفرح مع مبارك . . صحبي كلهم سعدوا بالضيافة إلا أنا . كان في قلبي صوت ردعني عن مشاركة الضيوف طعامهم . لقد اشتهيت قطعة " خبزة وجبنة "  معـك وأحسست كأنني أخون العهد لو فعلت غير ذلك وأنت بعيد .
عندي أخبار كثيرة لك ولكن من حق غيري أن يقولها لك ، وأحسب أنها فعلت في ليلها الذي تذكرك فيه كما في النهار .
سـلام عليـك يـا عبد الله المبارك يـوم ولـدت ويـوم رحـلت ويـوم تبعث حيـاً بإذن الله يـا عبـد الله .  








في ذكرى رحيله الحادية عشرة : عبد الله المبارك : بعض ما كان

في ذكرى رحيله الحادية عشرة:
عبد الله المبارك: بعض ما كان

محمد خالد القطمه

بغياب الشيخ عبد الله مبارك الصباح ، تغيب حقبة من تاريخ الكويت ، كانت هي الأكثر اضطراباً وبحثاً عن الطريق لشعب اختار له القدر أن يقع في فم الخطر . كان مبارك الصباح الذي ميزه الكويتيون بتسميته " مبارك الكبير " عرفاناً لدوره السياسي الخطير في تأسيس الدولة الكويتية و وضع حجر الأساس لاستمرار كيانها السياسي المستقل في خضم تيارات الطمع بابتلاعها و الهيمنة عليها ، كان ترك لابنائه ميراث الصراع مع القوى المحلية و الأجنبية الساعية إلى جعل الكويت إمارة تابعة أو كياناً مطيعاً لهذه القوة أو تلك . و كانت الكويت بعده تبحث عن طريقها إلى النجاة من المخالب و الأنياب التي تحيط بها ، حتى و قبل ظهور النفط ، الثروة المثيرة لشهوات الضم أو الطاعة .

و في أوائل الثلاثينات أخذت الأرض في الخليج العربي و في الجزيرة العربية و في الأحواز تبوح بسرها الأسود مما جعل الصراع على ا لكويت و حولها يزداد ضراوة وحدة ، الأمر الذي تطلب بحث قوى الصراع عن قوى محلية داخل الكويت تكون مرتكز التحرك الخارجي و أداته في آن واحد معاً . وكانت القوى المحلية ، والأصح التيارات المحلية تبحث هي ذاتها عن مصدر قوة خارجية يسند تطلعها إلى إصلاح النظام أو تغييره وإن كانت لم تجهر كلها بذلك لافتقارها إلى التعاطف الشعبي مع مثل هذا المطلب . و عندما وجدت المعارضة السياسية منفذاً لها في طرح الدعوة إلى الاتحاد مع العراق ، أو ضم الكويت إلى العراق عملياً، وجدت في حكم آل الصباح خصماً صلباً أجهض التحرك في اتجاه الاتحاد أو الضم ، وكان من الممسكين بسيفه عبد الله المبارك الصباح ، الابـن القـوي في ساحـة الحياة الكويتية آنذاك . 

كـان عبـد الله بن مبارك الكبير في الخامسة والعشرين من عمره بالتقريب آنذاك ، و لكن ذلك الشـاب كان رمـزاً لاستمـرار أبيه، وكان طلع على الدنيا عاشقاً للبادية ولأهلها ، ولتقاليد بادية الكويت وحياتها التي أول ما يميزها الفروسية بكل ما تحمله من عنفوان وقيم و ممارسة حياتيه . وفي حياة القبيلة لا موقع لك إن كنت تنأى عن السيف والخيل والعطاء ، لذلك كان عبد الله المبارك قريباً إلى أهل البادية الذين يعايشهم أيامهم ويجدون فيـه الرجل المحقق لمفهوم الحياة عندهم بالممارسة الفعلية . وقد أعطته شخصيته القوية و شجاعته والتفاف البادية حوله، أعطته الموقع الذي احتله بصفته الرجل الثاني في نظام الحكم الأسري في الفترة من أول الخمسينات حتى قراره الاستقالة و الاعتزال في حزيران العام 1961 .  بذلك كان الشيخ عبد الله أصغر ولي عهـد فـي تاريـخ الكويت إذ تولى منصب نائب الأمير و هو في السادسة و الثلاثين من عمره، و هي سن مبكرة نسبياً لتولي هذا المنصب في دولة سياسية متميزة بين مثيلاتها في هذا الجزء من العالم العربي . ولم يكن عبد الله المبارك بعيداً أبداً عن رؤية المستقبل لذلك فإن ما يلفت النظر هو سعيه إلى احتضان العرب في الكويت وتعزيز وجودهم فيها ، مع إقامته جسور علاقات سياسية مع عواصم عربية أبرزها القاهرة ودمشق ، ولعل هذه العلاقات الطموحة والموقف القومي من الحضور العربي في الكويت كانت في أساس توتر علاقته مع بريطانيا التي كانت حتى أوائل الستينات تملك القرار السياسي في الكويت و تمارس دور الموجه الفعلي له . وعندما استقال الشيخ عبد الله المبارك الصباح من منصبه واعتزل العمل السياسي كانت الظاهرة المرافقة هي صمته عن الخوض في أسباب أو تفاصيل الحدث الذي هز الكويت في حينه، و ابتعاده عن عملية التشويه أو التشويش أو التحريض ضد السلطة الشرعية في بلده، في سلوك لم يعهده العرب لا في تلك الحقبة ولا بعدها .


كان قراره اعتزال السلطة مع التمسك ببقائها شرعية صباحية في الكويت، و لم يخرج عن هذا الصراط في لحظة غضب أو في لحظة طموح. كانت مصلحة الكويت الحرة المستقلة، هي خياره الأول الذي جر عليه متاعب الصدام مع بريطانيا، و مع غيرها أولاً، و ظل خياره الأخير .

( الشعـر طريق التعـارف )
إذا كانت طموحات الصحافي هي التي تقوده إلى رجال في سوية الشيخ عبد الله مبارك الصباح ، فقد قـدر لي أن يكون الشعر هو طريقي إلى التعرف إليه، من خلال الاتصال المهني بالسيدة عقيلته الشاعرة سعاد الصباح ومنذ عرفته في أواسط العام 1984، حرصت على أن أذهب إليه مستمعاً لحديث من الذكريات أو حديث عن الكويت التي يخاف عليها من غد تتجمع حوله عواصف الغموض والرغبة في وأد مشعل الحرية والتفتح الذي تحمل. و قد أتيح لي أن أسجل شريطي ذكرياته في جنيف ولكنه حين علم بوجود الشريطين طلب إلي أعادتهما إليه ففعلت راضيـاً .

كان خوفه على الكويت، ليس من قوى خارجية تسعى لتدميرها وحسب ، بل كان يخاف عليهـا من تراكم سلبي داخلي يؤدي إلى إعطاء القوى الخارجية الفرصة للتواطؤ عليها . و قد جلست إلى هذا الرجل مئات الساعات، على مدى سبعة أعوام فما شعرت به يوماً مطمئناً إلى غد الكويت و لا إلى النوايا القريبة و البعيدة تجاهها. كان يرى في غياب جـمال عبد الناصـر غيـاب الضمانة العربية ، ليس للكويت فقط و لكن للعروبة . وكان يحزنه غياب الملك فيصل ، و يرى أن من سوء طالع العرب أن يغيب الرجلان في زمن واحد . و عندما كـان يحدثني عن الترابط المصيري للكويت مع عروبتها وعربها ، كنت استذكر كيف خرج الشيخ عبد الله المبارك مرحباً باللبنانيين القادمين على أول رحلة لطائرة الشرق الأوسط فأمر بالسماح بالدخول لمن لا يحمل الفيزا من السفارة البريطانية في بيروت، و بإعادة من ذهب إلى تلك السفارة يطلب تأشيرة الدخول إلى الكويت قائلاً " الكويـت بـلاد العـرب " وهو الشعار الذي كان للكويت عنواناً فـي زمنـه . ومن بين كل الصور التاريخية التي تحفل بها مكتبة وجدران صالونه الخاص في الطابق الثاني من القصر الأبيض ، فإن صورة واحدة ظلت وحيدة في ديوانه الرئيس هي صورة جمال عبد الناصر ، تجاورها صورة للكويت التقطت من سفينة الفضاء الأميركية وقدمت إليه تذكاراً، و لعله في هاتين الصورتين كان يقول لنفسه وللآخرين: الكويـت و العروبـة توأمان .

سنــة المجلـس

تعتبر سنة المجلس نقطة تحول في التاريـخ السياسي الحديث للكويت. إنها تاريخ كامل في حدث فقد حشد بعض  التجار كل زخمهم السياسي إلى جانب المطالبة بدعم العراق لهم ضد كلمة الشيخ أحمد الجابر والذي فسر على أنه يقارب المطالبة بضم الكويت إلى الحكم العراقي زمن الملك غـازي بـن فيصـل بن الحسين ، شريف مكة الذي خرج من الحجاز إلى الأردن مهزوماً. و راح الإنجليز الذين كانوا يتحكمـون بمصائر الشعوب العربية آنذاك، بالتحالف و بالتنـافس مـع فرنسا ، راحوا يبحثون عـن منصـة نفـوذ جديـدة لهم ولشريـف مكة . حاولوا أن يثبتـوا فيصـل على عرش في دمشق فقاومت فرنسا حتى أخرجته إلى العراق فارتضاه العراقيـون ملكـاً بينمـا كان أخوه عبد الله يجد إمارة له في الأردن الصغـيرة .كـان الهاشميـون يمثلـون لشعـوب الهلال الخصيـب التـاج العربي الوحيـد الـذي عـرفـوه بمقـابـل النفـوذ الأجنـبي المتمثــل فـي تحالف بريطانيا و فرنسا المتجسد فـي معاهـدة سايكس ـ بيـكو و مـا تـلاها مـن تثبيـت لـلاحتـلال  والانتـداب البريطـاني ـ الفرنسي في لبنـان والشـام و فلسطـين والأردن و العـراق . كانت الحجـاز مستقـلة بقيـادة آل سعـود والكويـت مستقلـة بقيـادة آل الصبـاح و لكن عيـون الهاشميين كانت علـى كـل بقعـة: كانـت علـى الشـام حلمـاً لعبـد الله بعـد خـروج أخيـه فيصل، وكانت  لغازي على الكويت عين أخرى، ساعده في التطلع إليها طموح طبقة من تجار الكويت إلى إلحاق الكويت بالعراق، ضماً أو اتحاداً . و قد بعث عدد مـن أعضـاء المجلس التشريعي بمذكـرة سياسية خطيرة تعلن رغبتهم في الحصول على عون عراقي أو ما فسر على أنه مطالبة بقيام اتحاد بين  العراق والكويت إلى الملك غازي في بغداد، أو في ضم الكويت للعراق، كما يقول المرحوم السيد عزت جعفر في حديثه إلي مساء يوم الأربعاء 18/9/1991 . ويصر السيد عزت جعفر الذي عايش تلك الحقبة بتفاصيلها الدقيقة من موقعه القريب إلى جانب حاكم الكويت آنذاك المرحوم الشيخ أحمد الجابـر يصر على القول أن المذكرة التي رفعها التجار تطالب بضم الكويت إلى العراق، أي بإلغاء حكم الصباح وجعل الكويت جزءاً من مملكة غازي. وكانت تلك المذكرة هي المفصل التاريخي الذي أدى إلى ما عرف بـ " سنة المجلس " ففي الوقت الذي راح فيه أعضاء بارزون في المجلس التشريعي الذي يرأسه الشيخ عبد الله السالم الصباح رحمه الله، يطالبون بالإصلاح الداخلي، كانوا يتابعون الضغط  باتجاه العلاقة الخاصة مع الحكم الملكي في العراق . هكـذا وكأن الضغـط بهـذه العلاقـة كان تهديداً للشيخ أحمد الجابـر حتى ينصاع لشروط المذكـرة الإصلاحيـة الـتي تقـدم بهـا أعضـاء المجلس إليـه. ويروي السيد عزت جعفر ، يـروي حكايـة الساعـات الدقيقة التي عاشتها الكويـت في يوم السنة ـ المفصل . يقول " كنا في مجلس الشيخ أحمد الجابر رحمه الله حين طلب الشيخ علي الخليفة مقابلته لأمـر عاجـل جـداً. و دخل عليه وهو ينتفض غضباً ليقول: هـل يرضيك يا طويـل العمر أن يقول محمد المنيس ما قاله ؟ و روى ما نقله له أحـد التجـار وهو شقيق لشخصية كويتية معروفة جداً بيننا اليوم فلا أريد ذكر أسمه ( الكلام للسيد عزت جعفر رحمه الله ) . جاء ذلك التاجر إلى الشيخ علي الخليفة وأبلغه أنه قادم لتوه من لقاء ضم الشيخ عبد الله السالم و نفراً من أعضاء المجلس حيث أبلغهم الشيخ عبد الله أن الشيخ أحمد الجابر مستعد لتلبية كل المطالب التي عرضوها في مذكـرتهم بشـرط أن يقوم هؤلاء باستعادة المذكرة التي رفعوها إلى الملك غازي.
و احتد أحمد المنيس الذي كان يجلس واضعاً رجله اليمنى فوق اليسرى وأخذ يقول للشيخ عبد الله السالم: يا طويل العمر. بالأمس كان قيصر روسيا يحكم ولكنه عندما رفض التجاوب مـع مطالب الشعب ثار الشعب و طرده هو وأسرته كلها . واليوم نجد هذه الأسرة ضايعة في أوروبا منها من يجد قوته والبعض يعمل في المطاعم والمقاهـي صـاروا بويـات (أي صبية) في القهوة ، ما عندهم مصرف (أي مصروف ) يومهم .
و أضاف ناقل الحديث أن أحمد المنيس قد أشار بقدمه اليمنى بما يعني الكنس عند حديثه عن طرد القياصـرة وأن الشيـخ عبد الله السالم لم يرد عليه بكلمة واحدة . "و حمل الشيخ علي الخليفة حديث الرجل للشيخ أحمد الجابـر الذي قال له" روح حقق بالموضوع و إذا كان صحيحاً ما قيل عن المنيس أدبه " .

 وغـادر علي الخليفة قصر دسمان ليأمر بالبحث عن أحمد المنيس ومحمد عبد العزيز القطامي وجماعة المعارضة الآخرين .

سقط الرجلان قتيلين وجرح يوسف المرزوق واعتقـل رجال بارزون وهرب من هرب إلى البصرة .
واسأل السيد عزت جعفر: "وهل كانت للشيخ عبد الله المبارك يد في مصرع المنيس و القطامي ؟ فيجيب" لا أبداً . فالذي أمر بقتل أحمد المنيس هو الشيخ علي الخليفة ولم يكن ذلك تنفيذاً لأمر الشيخ أحمد الجابر. لقد سمعت الشيخ أحمد بأذني يقول له: إذا كان صحيحاً أن المنيس قال ذلك أدبه، ولم يقل له قوصه . و لكن يبدو أن الشغب الذي رافق عملية الاعتقال و إطلاق النار في السوق قـد استثـار علـي الخليفة وجعله يتصور أن ذلك كان بسبب المنيس فقرر التخلص منه ".
إذن فلم تقترن شجاعة عبد الله المبارك بالدم . و لم يعرف عنه أنه جبن عن مواجهة الخطر في ليل أو الدفع بمرؤوسيه إلى مواقع الصدام و انتظار النتائج في مكتبه أو في ديوانه . و موافقته لم ترتبط بدم مسفوك ، ظالماً كان صاحبه أو مظلوماً . كان عبد الله مبارك الصباح صاحب هيبه و نفوذ و سطوة ، منحته إياها شجاعة تولد في الإنسان فيمسك بها .
الشجاعـة المسؤولـة

لم تكن الكويت مسرحاً لتيارات الصراع السياسي المحلي فحسب ، بل كانت أرض النشاط السياسي لجماعات المعارضة في الدول المجاورة والذين كانوا يجدون فيها ملجأ لهم بحكم موقعها الجغرافي القريب إلى ديارهم و لكن الكويت كانت تحظر على اللاجئين السياسيين إليها تنظيم نشاطهم الإعلامي و السياسي ، فكيف بالعسكري ، حتى لا يسيء ذلك إلى علاقاتها مع جيرانها . لهذا فقد كان المعارضون يجيئون إليها دون عناء و يقيمـون دون خـوف حتى إذا خرجوا عن المبدأ الذي ارتضته الكويت



لأمنهـا و لمفهـوم حسن الجوار كانت الكويت تجد في قانونها ما يـردع الخارجين . و من بين عناصر المعارضة النشطة عرفت الكويت في الستينات نشاطاً  لأقطاب من حزب " تودة " الشيوعي الإيراني كانوا لجأوا إليها هرباً من بطش السافاك. وقد وجدوا في الكويت الأمان الذي ينشده اللاجيء السياسي حين يختار بلداً ما لتكون مستقره الجديد .
و لكن حين بدأ نشاط هذه المجموعة يتحول إلى العلن ويستفيد من الأمان لتنظيم خلاياه في العمل المسلح ضد إيران قرر عبد الله المبارك وضع حد له حتى لا يؤثر نشاطه على سلامة الكويت . " أذكر أنه دخل علي و هو يستعد للخروج من القصـر. قـال : قـد لا أعـود بعـد الليلـة . و تلثم بالكوفيـة وحمل سلاحه و غادرنا فوقع قلبي على الأرض . كانت ليلة مرعبة بالفعل، خاصة بالنسبة لزوجة لا تزال في شهر عسلها. و عاد ليروي في هدوء وفرح كيف تمت عملية ضبط مجموعة حزب تودة الذين لم يقاوموه بالرصاص كما كان يتوقع. لقد كان هو الذي منحهم الأمان حين جاؤوا هاربين فلم يتصدوا له حين جاءهم مسلحاً يأمرهم بالتهيؤ لمغادرة بلده .
( في حديث مع رفيقته الدكتورة سعاد الصباح عن ساعات الحياة الخطرة مع عبد الله المبارك)                                  * * *
الرجل الإيماني دون حدود 

و أترك يد الرجل الكبير ليصعد إلى سيارته في طريقه إلى المطار . كان الشيخ عبد الله المبارك حريصاً على أن يعيد التوحيد باسم الله قبل سفره ، وكان لي في بعـض الأيام حظ وداعه و تبادل هذا الدعاء الكريم معه قبل أن يغادر إلى طائرته . كان إيمانياً إلى أبعد الحدود ، شديد التسليم لكل أمره إلى الله عز وجل لذلك لم يكن يعبأ بحزام الأمان على الطائرة، حتى حين تواجه المطبات الهوائية. و أذكر مرة و نحن نعود من القاهـرة و قـد راح عبـد الله المبارك يضحك من خوفي عندما أخذت الطائرة تهبط و صعد في اجتياز المطب الذي يثير الرعب في قلوب المسافرين إلا هو . و حين تجاوزنا الأزمة سألته كيف لا يدخل الخوف إلى قلبه والطائرة ريشة في مهب الريح فقال ضاحكاً: و هل ينفع الخوف ولم يكن ذلك مظهر الإيمان الوحيد الذي عرفته فيه قراءة القرآن قبل أن يسلم نفسه للنوم ، و القليل كان نصيبه منه إذ كان النوم صاحبـه الذي لايحب ، باستثناء ساعتين يقضيهما بعد تناول طعام الغداء في فراشه ، وكانت هذه القيلولة ، الطويلة نسبياً هي ساعات نومه الحقيقي. أما الليل فلم يكن له في ساعاته نـوم طويل " لقد تعودت السهر حتى الفجر منذ أيام الشرطة " ، و كم كثيرة كانت حالات تركه القصر ليركب سيارة الفولكسواغن الصغيرة و يدور في شوارع الكويت وصوب سورها برفقة سائقه فقط ليطمئن إلى حال الأمن و الأمان الـتي حـرص عليها طوال سنوات توليه سلطة الأمن و القوات المسلحة في البلاد .
عجيب إنسانك يا الله و الحنان فهذا الرجل الصلب الذي لا يخشى الخطر ولا يخاف قضـاء الله بالمـوت يتحـول إلى كتلة من الحنان حين ينظر أمامه أياً من أولاده : محمد و أمنية و مبارك و الشيماء . كنت ترى في عينيه حين يطل أحدهم ليقبل رأسه و وجنتيه استئذاناً بالذهاب إلى غرفته للدراسة أو للنوم ، كنت ترى بريق الحنان يشرق حتى يغيب أبنه أو أبنته عن ناظريه . هبطت بنا الطائرة في مطار الكويت و نحن نعود من القاهرة في مطلع العام 1986 ، من المشاركة الأدبية لرفيقة عمره في معرض الكتاب . و تتوقف الطائرة و يدخل إليها نجله محمد . كانت المرة الأولى التي يراه فيها و هو يرتدي الكوفية و العقال و البشت . و شهق عبد الله المبارك و دمعت عينه ثم تماسك و نجله يقبل يده و رأسه و سكت. لعل سكين الذكريات ذبحت قلبه من جديد و هو الذي زين القلب بصورة نجله الكبير الشيخ مبارك الذي اختاره الله إلى جواره في 22/6/1973 ، و كانت وفاته نقطة تحول كبيرة في حياة عبد الله المبارك و رفيقة عمره الدكتورة سعاد الصباح ، و التي حملت فجيعتها إلى كل أم من خلال مرثية اللوعة التي سجلتها لذلك الحادث المرعب في ديوانها " إليك يا ولدي " . لقد كان مبارك معها على الطائـرة حين نـاداه ربـه إليـه و هي تحضنه إلى الصدر حياً و مسافراً إلى عالم الغائبين ، فكانت اللحظة أقسى من أن تكتبهـا بكلمة النثر ، و أكبر حتى من حروف الشعر .
للمرأة كل الاحتــرام

و لم يكن عبد الله المبارك أول الخارجين على قانون القسوة القبلي ، بل هو الأول في الاعتراف بدور الأم الكبير في حياة الأسرة ، الصغيرة و الكبيرة . لقد كان يحيط سعاد الصباح ، زوجه و صدر مجلسه ، بالإكبار و ينصت إليها و هي تتحدث عرضاً لموقف أو لرأي في السياسة و لو كان بين موقفها و بين ما يراه كبير اختلاف . كان يراهن على التخوف من مسحة التفاؤل و الثقة التي تغلف حديثها و لكنه لم يقاطعها في حديث و لم يقطع في الرأي انطلاقاً مـن كونـه شيـخ القبيـلة و وريث كبيرها و صاحب سيفه . و سيبقى سلوكه الحضاري هذا سمة بارزة في تاريخه و شهادة كبيرة له ضد القانون الذي ولد في خيمته ثم خرج عليها و عليه " لقد أعطاني كل شـيء . 


كل ما أنا فيه مدينة به لأبي مبارك " من كلام منشور و مسموع للدكتورة سعاد الصبـاح عـن عبد الله المبارك في حياته و بعد غيابه. و كنت أحس الزهو في عينيه و هو يتابع البث المباشر لمهرجانات الشعر التي شاركت فيها ، كما كنت أحس قلقه عليها حين تتوجه لإحياء أمسية شعرية . كان شديد الخوف عليها ، و بعض هذا الخوف كان على مدى النجاح الذي تصيب .كيف كان الحضور . "كيف تقبلوا شعرها " . بهذا كان يسألني حين يصدف أن أسبقها إليه عائداً من الأمسية الشعريـة.
و كنت أستشعر عمق الراحة التي يحس بها للنجاح الذي تجيء به الأخبار قبل أن يشاهده تكراراً على شاشة التليفزيون ، من تسجيل يحملونه إليه في يوم لاحق . و لم يكن هذا الإكبار قصراً على الشاعرة في رفيقة عمره بل كان لشخصها و للمرأة انساناً ، تشهد له بذلك مئات الصور التذكارية مع زعماء العالم ، و تلك الصورة الفريدة لهما مع البابا يوحنا الثالث و العشرون في الفاتيكان . لقد تحولت المرأة عنده إلى رفيق درب و وسام حياة يتباهى به و يزهو في كبر الرجال الكبار .