في
ذكرى رحيله الحادية عشرة:
عبد
الله المبارك: بعض ما كان
محمد
خالد القطمه
بغياب الشيخ عبد الله مبارك الصباح ،
تغيب حقبة من تاريخ الكويت ، كانت هي الأكثر اضطراباً وبحثاً عن الطريق لشعب
اختار له القدر أن يقع في فم الخطر . كان مبارك الصباح الذي ميزه الكويتيون
بتسميته " مبارك الكبير " عرفاناً لدوره السياسي الخطير في تأسيس الدولة
الكويتية و وضع حجر الأساس لاستمرار كيانها السياسي المستقل في خضم تيارات الطمع
بابتلاعها و الهيمنة عليها ، كان ترك لابنائه ميراث الصراع مع القوى المحلية و
الأجنبية الساعية إلى جعل الكويت إمارة تابعة أو كياناً مطيعاً لهذه القوة أو تلك
. و كانت الكويت بعده تبحث عن طريقها إلى النجاة من المخالب و الأنياب التي تحيط
بها ، حتى و قبل ظهور النفط ، الثروة المثيرة لشهوات الضم أو الطاعة .
و في أوائل الثلاثينات أخذت الأرض في
الخليج العربي و في الجزيرة العربية و في الأحواز تبوح بسرها الأسود مما جعل
الصراع على ا لكويت و حولها يزداد ضراوة وحدة ، الأمر الذي تطلب بحث قوى الصراع عن
قوى محلية داخل الكويت تكون مرتكز التحرك الخارجي و أداته في آن واحد معاً . وكانت القوى المحلية ، والأصح التيارات المحلية تبحث هي ذاتها عن مصدر قوة خارجية
يسند تطلعها إلى إصلاح النظام أو تغييره وإن كانت لم تجهر كلها بذلك لافتقارها
إلى التعاطف الشعبي مع مثل هذا المطلب . و عندما وجدت المعارضة السياسية منفذاً
لها في طرح الدعوة إلى الاتحاد مع العراق ، أو ضم الكويت إلى العراق عملياً، وجدت
في حكم آل الصباح خصماً صلباً أجهض التحرك في اتجاه الاتحاد أو الضم ، وكان من
الممسكين بسيفه عبد الله المبارك الصباح ، الابـن القـوي في ساحـة الحياة الكويتية
آنذاك .
كـان عبـد الله بن مبارك الكبير في
الخامسة والعشرين من عمره بالتقريب آنذاك ، و لكن ذلك الشـاب كان رمـزاً
لاستمـرار أبيه، وكان طلع على الدنيا عاشقاً للبادية ولأهلها ، ولتقاليد بادية
الكويت وحياتها التي أول ما يميزها الفروسية بكل ما تحمله من عنفوان وقيم و
ممارسة حياتيه . وفي حياة القبيلة لا موقع لك إن كنت تنأى عن السيف والخيل والعطاء ، لذلك كان عبد الله المبارك قريباً إلى أهل البادية الذين يعايشهم أيامهم
ويجدون فيـه الرجل المحقق لمفهوم الحياة عندهم بالممارسة الفعلية . وقد أعطته
شخصيته القوية و شجاعته والتفاف البادية حوله، أعطته الموقع الذي احتله بصفته
الرجل الثاني في نظام الحكم الأسري في الفترة من أول الخمسينات حتى قراره
الاستقالة و الاعتزال في حزيران العام 1961 . بذلك كان الشيخ عبد الله أصغر ولي
عهـد فـي تاريـخ الكويت إذ تولى منصب نائب الأمير و هو في السادسة و الثلاثين من
عمره، و هي سن مبكرة نسبياً لتولي هذا المنصب في دولة سياسية متميزة بين مثيلاتها
في هذا الجزء من العالم العربي . ولم يكن عبد الله المبارك بعيداً أبداً عن رؤية
المستقبل لذلك فإن ما يلفت النظر هو سعيه إلى احتضان العرب في الكويت وتعزيز
وجودهم فيها ، مع إقامته جسور علاقات سياسية مع عواصم عربية أبرزها القاهرة ودمشق
، ولعل هذه العلاقات الطموحة والموقف القومي من الحضور العربي في الكويت كانت في
أساس توتر علاقته مع بريطانيا التي كانت حتى أوائل الستينات تملك القرار السياسي
في الكويت و تمارس دور الموجه الفعلي له . وعندما استقال الشيخ عبد الله المبارك الصباح
من منصبه واعتزل العمل السياسي كانت الظاهرة المرافقة هي صمته عن الخوض في أسباب
أو تفاصيل الحدث الذي هز الكويت في حينه، و ابتعاده عن عملية التشويه أو التشويش
أو التحريض ضد السلطة الشرعية في بلده، في سلوك لم يعهده العرب لا في تلك الحقبة
ولا بعدها .
كان قراره اعتزال السلطة مع التمسك
ببقائها شرعية صباحية في الكويت، و لم يخرج عن هذا الصراط في لحظة غضب أو في لحظة
طموح. كانت مصلحة الكويت الحرة المستقلة، هي خياره الأول الذي جر عليه متاعب
الصدام مع بريطانيا، و مع غيرها أولاً، و ظل خياره الأخير .
(
الشعـر طريق التعـارف )
إذا كانت طموحات الصحافي هي التي
تقوده إلى رجال في سوية الشيخ عبد الله مبارك الصباح ، فقد قـدر لي أن يكون الشعر
هو طريقي إلى التعرف إليه، من خلال الاتصال المهني بالسيدة عقيلته الشاعرة سعاد
الصباح ومنذ عرفته في أواسط العام 1984، حرصت على أن أذهب إليه مستمعاً لحديث من
الذكريات أو حديث عن الكويت التي يخاف عليها من غد تتجمع حوله عواصف الغموض والرغبة في وأد مشعل الحرية والتفتح الذي تحمل. و قد أتيح لي أن أسجل شريطي
ذكرياته في جنيف ولكنه حين علم بوجود الشريطين طلب إلي أعادتهما إليه ففعلت
راضيـاً .
كان خوفه على الكويت، ليس من قوى
خارجية تسعى لتدميرها وحسب ، بل كان يخاف عليهـا من تراكم سلبي داخلي يؤدي إلى
إعطاء القوى الخارجية الفرصة للتواطؤ عليها . و قد جلست إلى هذا الرجل مئات
الساعات، على مدى سبعة أعوام فما شعرت به يوماً مطمئناً إلى غد الكويت و لا إلى
النوايا القريبة و البعيدة تجاهها. كان يرى في غياب جـمال عبد الناصـر غيـاب
الضمانة العربية ، ليس للكويت فقط و لكن للعروبة . وكان يحزنه غياب الملك فيصل ، و
يرى أن من سوء طالع العرب أن يغيب الرجلان في زمن واحد . و عندما كـان يحدثني عن
الترابط المصيري للكويت مع عروبتها وعربها ، كنت استذكر
كيف خرج الشيخ عبد الله المبارك مرحباً باللبنانيين القادمين على أول رحلة لطائرة
الشرق الأوسط فأمر بالسماح بالدخول لمن لا يحمل الفيزا من السفارة البريطانية في
بيروت، و بإعادة من ذهب إلى تلك السفارة يطلب تأشيرة الدخول إلى الكويت قائلاً
" الكويـت بـلاد العـرب " وهو الشعار الذي كان للكويت عنواناً فـي
زمنـه . ومن بين كل الصور التاريخية التي تحفل بها مكتبة وجدران صالونه الخاص في
الطابق الثاني من القصر الأبيض ، فإن صورة واحدة ظلت وحيدة في ديوانه الرئيس هي
صورة جمال عبد الناصر ، تجاورها صورة للكويت التقطت من سفينة الفضاء الأميركية وقدمت إليه تذكاراً، و لعله في هاتين الصورتين كان يقول لنفسه وللآخرين: الكويـت
و العروبـة توأمان .
سنــة
المجلـس
تعتبر سنة المجلس نقطة تحول في التاريـخ
السياسي الحديث للكويت. إنها تاريخ كامل في حدث فقد حشد بعض التجار كل زخمهم السياسي إلى جانب المطالبة
بدعم العراق لهم ضد كلمة الشيخ أحمد الجابر والذي فسر على أنه يقارب المطالبة بضم
الكويت إلى الحكم العراقي زمن الملك غـازي بـن فيصـل بن الحسين ، شريف مكة الذي
خرج من الحجاز إلى الأردن مهزوماً. و راح الإنجليز الذين كانوا يتحكمـون بمصائر
الشعوب العربية آنذاك، بالتحالف و بالتنـافس مـع فرنسا ، راحوا يبحثون عـن منصـة
نفـوذ جديـدة لهم ولشريـف مكة . حاولوا أن يثبتـوا فيصـل على عرش في دمشق فقاومت
فرنسا حتى أخرجته إلى العراق فارتضاه العراقيـون ملكـاً بينمـا كان أخوه عبد الله
يجد إمارة له في الأردن الصغـيرة .كـان الهاشميـون يمثلـون لشعـوب الهلال الخصيـب
التـاج العربي الوحيـد الـذي عـرفـوه بمقـابـل النفـوذ الأجنـبي المتمثــل فـي
تحالف بريطانيا و فرنسا المتجسد فـي معاهـدة سايكس
ـ بيـكو و مـا تـلاها مـن تثبيـت لـلاحتـلال
والانتـداب البريطـاني ـ الفرنسي في لبنـان والشـام و فلسطـين والأردن و
العـراق . كانت الحجـاز مستقـلة بقيـادة آل سعـود والكويـت مستقلـة بقيـادة آل
الصبـاح و لكن عيـون الهاشميين كانت علـى كـل بقعـة: كانـت علـى الشـام حلمـاً
لعبـد الله بعـد خـروج أخيـه فيصل، وكانت لغازي على الكويت عين أخرى، ساعده في التطلع
إليها طموح طبقة من تجار الكويت إلى إلحاق الكويت بالعراق، ضماً أو اتحاداً . و
قد بعث عدد مـن أعضـاء المجلس التشريعي بمذكـرة سياسية خطيرة تعلن رغبتهم في
الحصول على عون عراقي أو ما فسر على أنه مطالبة بقيام اتحاد بين العراق والكويت إلى الملك غازي في بغداد، أو
في ضم الكويت للعراق، كما يقول المرحوم السيد عزت جعفر في حديثه إلي مساء يوم
الأربعاء 18/9/1991 . ويصر السيد عزت جعفر الذي عايش تلك الحقبة بتفاصيلها
الدقيقة من موقعه القريب إلى جانب حاكم الكويت آنذاك المرحوم الشيخ أحمد الجابـر
يصر على القول أن المذكرة التي رفعها التجار تطالب بضم الكويت إلى العراق، أي
بإلغاء حكم الصباح وجعل الكويت جزءاً من مملكة غازي. وكانت تلك المذكرة هي
المفصل التاريخي الذي أدى إلى ما عرف بـ " سنة المجلس " ففي الوقت الذي
راح فيه أعضاء بارزون في المجلس التشريعي الذي يرأسه الشيخ عبد الله السالم الصباح
رحمه الله، يطالبون بالإصلاح الداخلي، كانوا يتابعون الضغط باتجاه العلاقة الخاصة مع الحكم الملكي في
العراق . هكـذا وكأن الضغـط بهـذه العلاقـة كان تهديداً للشيخ أحمد الجابـر حتى
ينصاع لشروط المذكـرة الإصلاحيـة الـتي تقـدم بهـا أعضـاء المجلس إليـه. ويروي
السيد عزت جعفر ، يـروي حكايـة الساعـات الدقيقة التي عاشتها الكويـت في يوم السنة
ـ المفصل . يقول " كنا في مجلس الشيخ أحمد الجابر رحمه الله حين طلب الشيخ علي الخليفة مقابلته
لأمـر عاجـل جـداً. و دخل عليه وهو ينتفض غضباً ليقول: هـل يرضيك يا طويـل
العمر أن يقول محمد المنيس ما قاله ؟ و روى ما نقله له أحـد التجـار وهو شقيق
لشخصية كويتية معروفة جداً بيننا اليوم فلا أريد ذكر أسمه ( الكلام للسيد عزت جعفر
رحمه الله ) . جاء ذلك التاجر إلى الشيخ علي الخليفة وأبلغه أنه قادم لتوه من
لقاء ضم الشيخ عبد الله السالم و نفراً من أعضاء المجلس حيث أبلغهم الشيخ عبد الله
أن الشيخ أحمد الجابر مستعد لتلبية كل المطالب التي عرضوها في مذكـرتهم بشـرط أن
يقوم هؤلاء باستعادة المذكرة التي رفعوها إلى الملك غازي.
و احتد أحمد المنيس الذي كان يجلس
واضعاً رجله اليمنى فوق اليسرى وأخذ يقول للشيخ عبد الله السالم: يا طويل العمر. بالأمس كان قيصر روسيا يحكم ولكنه عندما رفض التجاوب مـع مطالب الشعب ثار الشعب
و طرده هو وأسرته كلها . واليوم نجد هذه الأسرة ضايعة في أوروبا منها من يجد
قوته والبعض يعمل في المطاعم والمقاهـي صـاروا بويـات (أي صبية) في القهوة ،
ما عندهم مصرف (أي مصروف ) يومهم .
و أضاف ناقل الحديث أن أحمد المنيس قد
أشار بقدمه اليمنى بما يعني الكنس عند حديثه عن طرد القياصـرة وأن الشيـخ عبد
الله السالم لم يرد عليه بكلمة واحدة . "و حمل الشيخ علي الخليفة حديث الرجل
للشيخ أحمد الجابـر الذي قال له" روح حقق بالموضوع و إذا كان صحيحاً ما قيل
عن المنيس أدبه " .
وغـادر علي الخليفة قصر دسمان ليأمر
بالبحث عن أحمد المنيس ومحمد عبد العزيز القطامي وجماعة المعارضة الآخرين .
سقط الرجلان قتيلين وجرح يوسف
المرزوق واعتقـل رجال بارزون وهرب من هرب إلى البصرة .
واسأل السيد عزت جعفر:
"وهل كانت للشيخ عبد الله المبارك يد في مصرع المنيس و القطامي ؟ فيجيب" لا أبداً . فالذي أمر بقتل أحمد المنيس هو الشيخ علي الخليفة ولم يكن ذلك
تنفيذاً لأمر الشيخ أحمد الجابر. لقد سمعت الشيخ أحمد بأذني يقول له: إذا كان
صحيحاً أن المنيس قال ذلك أدبه، ولم يقل له قوصه . و لكن يبدو أن الشغب الذي
رافق عملية الاعتقال و إطلاق النار في السوق قـد استثـار علـي الخليفة وجعله
يتصور أن ذلك كان بسبب المنيس فقرر التخلص منه ".
إذن فلم تقترن شجاعة عبد الله المبارك
بالدم . و لم يعرف عنه أنه جبن عن مواجهة الخطر في ليل أو الدفع بمرؤوسيه إلى
مواقع الصدام و انتظار النتائج في مكتبه أو في ديوانه . و موافقته لم ترتبط بدم
مسفوك ، ظالماً كان صاحبه أو مظلوماً . كان عبد الله مبارك الصباح صاحب هيبه و
نفوذ و سطوة ، منحته إياها شجاعة تولد في الإنسان فيمسك بها .
الشجاعـة
المسؤولـة
لم تكن الكويت مسرحاً لتيارات الصراع
السياسي المحلي فحسب ، بل كانت أرض النشاط السياسي لجماعات المعارضة في الدول
المجاورة والذين كانوا يجدون فيها ملجأ لهم بحكم موقعها الجغرافي القريب إلى
ديارهم و لكن الكويت كانت تحظر على اللاجئين السياسيين إليها تنظيم نشاطهم
الإعلامي و السياسي ، فكيف بالعسكري ، حتى لا يسيء ذلك إلى علاقاتها مع جيرانها .
لهذا فقد كان المعارضون يجيئون إليها دون عناء و يقيمـون دون خـوف حتى إذا خرجوا
عن المبدأ الذي ارتضته الكويت
لأمنهـا و لمفهـوم حسن الجوار كانت
الكويت تجد في قانونها ما يـردع الخارجين . و من بين عناصر المعارضة النشطة عرفت
الكويت في الستينات نشاطاً لأقطاب من حزب
" تودة " الشيوعي الإيراني كانوا لجأوا إليها هرباً من بطش السافاك. وقد وجدوا في الكويت الأمان الذي ينشده اللاجيء السياسي حين يختار بلداً ما لتكون
مستقره الجديد .
و لكن حين بدأ نشاط هذه المجموعة يتحول
إلى العلن ويستفيد من الأمان لتنظيم خلاياه في العمل المسلح ضد إيران قرر عبد
الله المبارك وضع حد له حتى لا يؤثر نشاطه على سلامة الكويت . " أذكر أنه
دخل علي و هو يستعد للخروج من القصـر. قـال : قـد لا أعـود بعـد الليلـة . و تلثم
بالكوفيـة وحمل سلاحه و غادرنا فوقع قلبي على الأرض . كانت ليلة مرعبة بالفعل،
خاصة بالنسبة لزوجة لا تزال في شهر عسلها. و عاد ليروي في هدوء وفرح كيف تمت
عملية ضبط مجموعة حزب تودة الذين لم يقاوموه بالرصاص كما كان يتوقع. لقد كان هو
الذي منحهم الأمان حين جاؤوا هاربين فلم يتصدوا له حين جاءهم مسلحاً يأمرهم
بالتهيؤ لمغادرة بلده .
( في حديث مع رفيقته الدكتورة سعاد
الصباح عن ساعات الحياة الخطرة مع عبد الله المبارك) * * *
الرجل
الإيماني دون حدود
و أترك يد الرجل الكبير ليصعد إلى
سيارته في طريقه إلى المطار . كان الشيخ عبد الله المبارك حريصاً على أن يعيد
التوحيد باسم الله قبل سفره ، وكان لي في بعـض الأيام حظ وداعه و تبادل هذا
الدعاء الكريم معه قبل أن يغادر إلى طائرته . كان إيمانياً إلى أبعد الحدود ، شديد
التسليم لكل أمره إلى الله عز وجل لذلك لم يكن يعبأ بحزام الأمان على الطائرة،
حتى حين تواجه المطبات الهوائية. و أذكر مرة و نحن نعود من القاهـرة و قـد راح
عبـد الله المبارك يضحك من خوفي عندما أخذت الطائرة تهبط و صعد في اجتياز المطب
الذي يثير الرعب في قلوب المسافرين إلا هو . و حين تجاوزنا الأزمة سألته كيف لا
يدخل الخوف إلى قلبه والطائرة ريشة في مهب الريح فقال ضاحكاً: و هل ينفع الخوف ولم يكن ذلك مظهر الإيمان الوحيد الذي عرفته فيه قراءة القرآن قبل أن يسلم نفسه
للنوم ، و القليل كان نصيبه منه إذ كان النوم صاحبـه الذي لايحب ، باستثناء
ساعتين يقضيهما بعد تناول طعام الغداء في فراشه ، وكانت هذه القيلولة ، الطويلة
نسبياً هي ساعات نومه الحقيقي. أما الليل فلم يكن له في ساعاته نـوم طويل "
لقد تعودت السهر حتى الفجر منذ أيام الشرطة " ، و كم كثيرة كانت حالات تركه
القصر ليركب سيارة الفولكسواغن الصغيرة و يدور في شوارع الكويت وصوب سورها برفقة
سائقه فقط ليطمئن إلى حال الأمن و الأمان الـتي حـرص عليها طوال سنوات توليه سلطة
الأمن و القوات المسلحة في البلاد .
عجيب إنسانك يا الله و الحنان فهذا الرجل الصلب الذي لا يخشى الخطر ولا يخاف قضـاء الله بالمـوت يتحـول إلى
كتلة من الحنان حين ينظر أمامه أياً من أولاده : محمد و أمنية و مبارك و الشيماء .
كنت ترى في عينيه حين يطل أحدهم ليقبل رأسه و وجنتيه استئذاناً بالذهاب إلى غرفته
للدراسة أو للنوم ، كنت ترى بريق الحنان يشرق حتى يغيب أبنه أو أبنته عن ناظريه .
هبطت بنا الطائرة في مطار الكويت و نحن نعود من القاهرة في مطلع العام 1986 ، من
المشاركة الأدبية لرفيقة عمره في معرض الكتاب . و تتوقف الطائرة و يدخل
إليها نجله محمد . كانت المرة الأولى التي يراه فيها و هو يرتدي الكوفية و العقال
و البشت . و شهق عبد الله المبارك و دمعت عينه ثم تماسك و نجله يقبل يده و رأسه و
سكت. لعل سكين الذكريات ذبحت قلبه من جديد و هو الذي زين القلب بصورة نجله الكبير
الشيخ مبارك الذي اختاره الله إلى جواره في 22/6/1973 ، و كانت وفاته نقطة تحول
كبيرة في حياة عبد الله المبارك و رفيقة عمره الدكتورة سعاد الصباح ، و التي حملت
فجيعتها إلى كل أم من خلال مرثية اللوعة التي سجلتها لذلك الحادث المرعب في
ديوانها " إليك يا ولدي " . لقد كان مبارك معها على الطائـرة حين نـاداه
ربـه إليـه و هي تحضنه إلى الصدر حياً و مسافراً إلى عالم الغائبين ، فكانت اللحظة
أقسى من أن تكتبهـا بكلمة النثر ، و أكبر حتى من حروف الشعر .
للمرأة
كل الاحتــرام
و لم يكن عبد الله المبارك أول الخارجين
على قانون القسوة القبلي ، بل هو الأول في الاعتراف بدور الأم الكبير في حياة
الأسرة ، الصغيرة و الكبيرة . لقد كان يحيط سعاد الصباح ، زوجه و صدر مجلسه ،
بالإكبار و ينصت إليها و هي تتحدث عرضاً لموقف أو لرأي في السياسة و لو كان بين
موقفها و بين ما يراه كبير اختلاف . كان يراهن على التخوف من مسحة التفاؤل و الثقة
التي تغلف حديثها و لكنه لم يقاطعها في حديث و لم يقطع في الرأي انطلاقاً مـن
كونـه شيـخ القبيـلة و وريث كبيرها و صاحب سيفه . و سيبقى سلوكه الحضاري هذا سمة
بارزة في تاريخه و شهادة كبيرة له ضد القانون الذي ولد في خيمته ثم خرج عليها و
عليه " لقد أعطاني كل شـيء .
كل ما أنا فيه مدينة به لأبي مبارك
" من كلام منشور و مسموع للدكتورة سعاد الصبـاح عـن عبد الله المبارك في
حياته و بعد غيابه. و كنت أحس الزهو في عينيه و هو يتابع البث المباشر لمهرجانات
الشعر التي شاركت فيها ، كما كنت أحس قلقه عليها حين تتوجه لإحياء أمسية شعرية .
كان شديد الخوف عليها ، و بعض هذا الخوف كان على مدى النجاح الذي تصيب .كيف كان
الحضور . "كيف تقبلوا شعرها " . بهذا كان يسألني حين يصدف أن أسبقها
إليه عائداً من الأمسية الشعريـة.
و كنت أستشعر عمق الراحة التي يحس بها
للنجاح الذي تجيء به الأخبار قبل أن يشاهده تكراراً على شاشة التليفزيون ، من
تسجيل يحملونه إليه في يوم لاحق . و لم يكن هذا الإكبار قصراً على الشاعرة في
رفيقة عمره بل كان لشخصها و للمرأة انساناً ، تشهد له بذلك مئات الصور التذكارية
مع زعماء العالم ، و تلك الصورة الفريدة لهما مع البابا يوحنا الثالث و العشرون في
الفاتيكان . لقد تحولت المرأة عنده إلى رفيق درب و وسام حياة يتباهى به و يزهو في
كبر الرجال الكبار .