الخميس، 26 يوليو 2012

الحقيقة بشأن استقالة عبدالله مبارك الصباح



برغم صغر سنه.. كان بمثابة العم لكل شيوخ الكويت، واعتبر معظم أفراد العائلة بمثابة أولاده وأنه" كبير الأسرة "- لم يكن لديه أدنى استعداد للقيام بأي عمل يهدد وحدة الأسرة أو يثير الخلافات داخلها

- العلاقة بين عبدالله المبارك وعبدالله السالم كانت تتسم بأعلى مراحل الصفاء والسمو الأخلاقي

- قام الشيخ صباح السالم، وقبّل رأس عمه الشيخ عبد الله قائلاً له: "الحكم لك يا عمي" ، فردّ الشيخ عبد الله بأنه لم يعد لتولي الحكم، وقال: "أنا أثق بكم، وأبارك كل اختياراتكم" .





بقلم: د.سعاد محمد الصباح



لقد حرصت على عرض ما ورد في الوثائق البريطانية حول تلك الأيام الحاسمة في الكويت في سنة الاستقلال دون تدخل من جانبي ، وبنفس عباراتها تقريبا، لكي أعطي صورة عن تفكير الحكومة الانكليزية في ما حدث وقتذاك، وللمعلومات التي أقاموا على أساسها تقديراتهم وحددوا مواقفهم.

وأريد بعد ذلك أن أعرض لما حدث وخلفياته كما سمعتها من " أبي مبارك"، وأترك الأمر بعد ذلك للباحثين والمؤرخين لمن يريد منهم أن يكتب تاريخ تلك الأيام الحاسمة من حياة وطننا.

لقد كانت علاقة الشيخ عبد الله بأسرته من نوع خاص جداً، وذلك بحكم أنه ابن الشيخ مبارك الكبير. فقد أعطاه ذلك وضعاً أدبياً ومعنويا متميزا. فبرغم صغر سنه ، فإنه كان بمثابة العم لكل شيوخ الكويت، واعتبر معظم أفراد العائلة بمثابة أولاده وأنه " كبير الأسرة " الذي عليه متابعة أمورها ، ورعاية شؤونها العامة والخاصة. وكانت داره مفتوحة للجميع بدون تمييز، وعرف شباب الأسرة طريقهم إلى قلبه باعتباره عمهم ، و" العم والد " كما يقول المثل العربي. وزاد من ارتباطه بالأسرة أنه تأخر في سن الزواج، فكان شباب الأسرة في مقام أولاده .

وكانت علاقاته بأعضاء الأسرة متنوعة وعديدة . فعلى سبيل المثال، اتسمت علاقته بكل من الشيخ فهد السالم والشيخ صباح السالم بودّ حميم. فقد كانت أعمارهم متقاربة، وبرغم وجود اختلافات في الرأي بينهم أحياناً – وتلك سنة الحياة – فقد استمرت صلة المودة والاحترام قائمة. وإنني أدهش من إلحاح التقارير الإنكليزية على الإشارة إلى الخلاف بين الشيخ عبد الله والشيـخ فهد، وأذكر ما أخبرني به الشيخ عبد الله من مشاعر المحبة والاحترام التي ربطته بالشيخ فهد، وأنه كم شعر بالحزن والوحدة لوفاة الشيخ فهد في يونيو من عام 1959 .  

       ومن الجيل الأصغر سناً، ارتبط الشيخ عبد الله بكثير من الأسماء التي سطعت في سماء الكويت منذ الاستقلال. من هؤلاء سمو الشيخ جابر الأحمد الذي كان مسؤولاً عن الأمن في ميناء الأحمدي وعمل معه عن قرب، والشيخ سعد العبد الله الذي كان نائبه في دائرة الشرطة والأمن العام ثم خلفه كرئيس للدائرة، والشيخ مبارك العبد الله الجابر، نائبه في قيادة الجيش ، والشيخ مبارك العبد الله الأحمد، نائبه في دائرة الأمن العام، وكذلك الشيخ جابر العبد الله الجابر. وكان يقول: " أن هؤلاء أولادي، وأن الجيش والشرطة في أيد أمينة، وإني أرى نفسي فيهم " .

       كان الشيخ شغوفاً برعاية أسرته الصغيرة والكبيرة وامتدت رعايته للكثير من أسرة الصباح. ارتبط بوالدته ارتباطاً عميقاً، وكان يعودها يومياً في الكويت ويسافر معها لمتابعة علاجها في الخارج. كما اهتم بشقيقاته وأسرهن، وكذلك بشقيقه الشيخ حمد – الذي رعاه في الصغر – وبأولاده الشيخ مبارك والشيخ خالد.

       احتفظ الشيخ بمشاعر مودة خاصة لأولاد الشيخ أحمد الجابر. فقد نشأ الشيخ عبد الله في ظله، وكان يعتبره بمثابة الوالد والمعلم، وهو الذي فتح له أبواب المشاركة في الحياة العامة، ودربه على تحمل المسؤولية . لذلك كان أبناؤه محل اهتمام خاص من جانب الشيخ عبد الله. وإلى جانب الشيخ جابر الأحمد والشيخ صباح الأحمد، فقد ربطته علاقة خاصة بالشيخ عبد الله الأحمد الذي عمل نائباً له في دائرة الأمن العام، وائتمنه على وصيته. أما الشيخ محمد الأحمد الذي اعتكف لفترة بالبصرة، فقد كان يزوره من حين لآخر للاطمئنان عليه. أقام علاقة مماثلة مع الشيخ حمود الجابر، شقيق الشيخ أحمد الجابر. أما بالنسبة للشيخة بيبي السالم زوجة الشيخ أحمد الجابر- وابنة شقيقه – فقد احتلت لديه مكانة الأخت بكل ما فيها من معاني الوفاء والتواصل.

       امتد اهتمامه إلى أبناء عمومته – أولاد الشيخ محمد والشيخ جراح الذين أقاموا في البصرة، وسعى لعودتهم إلى بلدهم وتوفير الحياة الكريمة لهم. ربطته صلة مودة متميزة بالشيخ حمود الجراح . كما اهتم بأحفاد أخوته، مثل الشيخ حمود والشيخ دعيج أحفاد أخيه حمود، وبأحفاد أخوته مثل الشيخ جابر العبد الله الجابر. بنفس روح الوفاء ارتبط بالشيخ عبد الله الخليفه شقيق الشيخ علي الخليفة وظل يعوده حتى وفاته .

       وحرص الشيخ عبد الله على الاهتمام بشباب الأسرة، فكان يدعوهم إلى الخروج معه إلى البر، ويحدثهم عن مكانة أسرة الصباح في تاريخ الكويت، والدور الذي يجب أن يقوم به شباب الأسرة في نهضة المجتمع وتقدمه. وقد ازدحمت غرفة نومه بصور كثير من أعمدة أسرة الصباح.

       حرص الشيخ على وضع أسرة الصباح وتضامنها، ولم يكن لديه أدنى استعداد للقيام بأي عمل يهدد وحدة الأسرة أو يثير الخلافات داخلها، وكان هذا هو أحد مفاتيح شخصيته التي لم يفهمها الانكليز قط. لقد اختزنت نفسه طموحات عريضة تتعلق ببلاده، ورغب في تحديث الكويت وتطويرها بسرعة، ودافع بحماسة عن آرائه وعما اعتقد أنه الصحيح، ولكنه لم يفكر قط في استخدام القوة لفرض رأيه أو موقفه على الآخرين .

وخلافاً لما تردد في الوثائق البريطانية من أن جهود الشيخ لتسليح الجيش الكويتي وزيادة عدده قد أثارت المخاوف لأنها أدت إلى دعم نفوذه السياسي، فإن الشيخ لم يفكر في الجيش إلا باعتباره درعاً للوطن في مواجهة المطامع الخارجية، وأساساً لا غنى عنه لبناء الدولة الحديثة. لذلك، فإن حديث التقارير البريطانية عن استخدام القوة وعن احتمال قيامه بانقلاب يعكس عدم فهم للرجل وللعلاقات داخل الأسرة . وأكبر دليل على ذلك هو ما حدث في عام 1950 عند وفاة الشيخ احمد الجابر، أو في عام 1960 عندما حدثت خلافات مع الأمير حول عدد من قضايا الحكم.


              وكما أوضحت من قبل، فقد كان الشيخ أحمد الجابر مريضاً للغاية في أيامه الأخيرة، وترك السلطة بأكملها تقريباً للشيخ عبد الله. وعندما توفاه الله، أرسل الشيخ برقية إلى الشيخ عبد الله السالم الذي كان في طريقه للهند يطلب فيها منه سرعة العودة. ولم يتمكن الشيخ عبد الله السالم من حضور مراسم الدفن والعزاء، وكان الشيخ عبد الله هو الذي استقبل المعزين وتلقى العزاء على رأس أفراد الأسرة. ولم يحدث قط أي خلاف على السلطة في ذلك الوقت، وحديث التقارير الإنكليزية عن تنافسات وصراعات لم يكن له أساس، ولا أعرف من أين أتى مكتب الوكيل السياسي البريطاني في الكويت بهذه المعلومات. وكما أخبرني الشيخ، فإنه عندما اجتمعت الأسرة للبحث في اختيار خليفـة للشيخ أحمد الجابر، فإنه وصف الشيخ عبد الله السالم بأنه " والدي وهو أحق مني ".

ولمدة عشر سنوات تالية، كان الشيخ عبد الله هو نائب الحاكم ويده اليمنى في إدارة البلاد، وكان الحاكم يترك له الكثير من الأمور ليباشرها بنفسه، كما أوضحت في الفصول السابقة. وكان الشيخ عبد الله حريصاً على إبراز كل مظاهر الاحترام والتقدير للشيخ عبد الله السالم، وكان يفعل ذلك بشكل تلقائي وطبيعي بحكم العادات التي تربى عليها، والقيم التي طبعت تفكيره وسلوكه. وزاد من دور الشيخ عبد الله وأهميته خلال هذه الفترة الطباع الشخصية للشيخ عبد الله السالم وميله للسكينة والانطواء، وعدم رغبته في التدخل في القرارات اليومية المتعلقة بتسيير أمور الحكم، وهو ما أضطلع به الشيخ عبد الله مبارك.

       لهذا، توطدت علاقة حميمة بين الرجلين. علاقة حكمتها مجموعة متداخلة من العوامل، منها احترام الصغير للأكبر سناً، ومنها رابطة الدم بين الإنسان وعمه،


ومنها روح التفاني والإخلاص في العمل التي مارسها الشيخ عبد الله وكسب بها حب ابن شقيقه واحترامه. لذلك، كان الحاكم يسافر كثيراً إلى الخارج معتمداً على وجود يده اليمنى ونائبه، وكان من الملاحظ عموماً أن الشيخ عبد الله لا يسافر لقضاء إجازته السنوية إلا عندما يكون الحاكم موجوداً.

وباستعراض التقارير الشهرية للوكيل السياسي التي كان يوثق فيها تواريخ سفر كبار المسؤولين في حكومة الكويت، يتضح أن الشيخ عبد الله مبارك تولى الحكم بالنيابة لأول مرة عام 1950، ثم عام 1951. ثم تولاه في عام 1952  لمدة ثلاثة شهور ( مارس و نوفمبر وديسمبر ) ، وفي عام 1953 لمدة ثلاثة شهور أيضاً ( فترة الصيف )، وفي عام 1954 لمدة شهرين ( ابريل ومايو )، وفي عام  1955 لمدة ثلاثة شهور( ابريل ومايو وديسمبر ) ، وفي عام 1956 لمدة شهر واحد ( أكتوبر )، وفي عام 1957 لمدة أربعة أشهر ( ابريل ويونيو ونوفمبر وديسمبر )، وفي عام 1958 لمدة تسعة أشهر ( ماعدا أغسطس وسبتمبر وأكتوبر )، وفي عام 1959 في أغلب الشهور لسفر الحاكم كل شهر من شهور السنة ماعدا شهر أكتوبر، وفي عام 1960 لمدة ستة أشهر ( يناير وابريل ومايو ويونيو وأكتوبر ونوفمبر ) . ويلاحظ أنه في السنوات الثلاث السابقة على الاستقلال، تزايدت مهام نائب الحاكم.

تؤكد ذلك عشرات التقارير التي كتبها الوكيل السياسي في هذا الشأن، وسوف أقتبس من بعض هذه التقارير التي كتبت خلال الفترة 1957 – 1960، أي الفترة التي سبقت الاستقلال مباشرة . ففي تقرير للوكيل السياسي 17 يناير عام 1957، لاحظ أن الحاكم لم يعد يهدد بالاستقالة أو التنازل عن الحكم مؤخراً ولكن " الفترات التي يقضيها خارج الكويت أصبحت أطول وعددها أكثر "                          

وفي عام 1959، تكررت إشارة الوكيل السياسي إلى ذلك، فأشار في تقرير له بتاريخ 11 فبراير إلى أن الحاكم يقضي في الخارج أوقاتاً طويلة، " ويزور الكويت من آن لآخر، وأنه نادراً ما يحكم"  . وفي يونيو من نفس العام، ذكر الوكيل السياسي أن عبد الله مبارك يقوم بمهام الحاكم أغلب الوقت. وأضاف في تقرير له بتاريخ 5 أغسطس بأنه يمكن اعتبار الحاكم في حالة " شبه تقاعد في لبنان وأنه يزور الكويت من وقت لآخر ".

وفي عام 1960، أشارت التقارير البريطانية إلى هذا الموضوع عدة مرات. ففي تقرير للوكيل السياسي بتاريخ 19 مايو، كتب أن عبدالله مبارك يمارس "مهام الحاكم بالنيابة" لفترات طويلة.

وفي 5 يونيـو من العام المذكور، ورد في تقرير آخر " أن الحاكم يغيب عن البلاد أغلب الوقـت، وأنه فـي فترة غيابه يتولى عبد الله مبارك مهام الحاكم بالنيابة". وفي التقرير السنوي لعام 1960 الذي قدمه المقيم السياسي عن أحوال الكويت، ذكر أن الحاكم استمر في تحاشي التورط في المشاكل اليومية للأسرة الحاكمة والمجتمع الكويتي عموماً، وذلك بإقامته أغلب الوقت خارج الكويت.

وأشارت تقارير القنصلية الأميركية إلى نفس المعنى، مثل ما ورد في تقرير القنصل الأميركي بتاريخ 29 ديسمبر عام 1957 ، وتقريره بتاريخ 29 أكتوبر عام 1959.

وكان ولاء الشيخ عبدالله مبارك للحاكم مطلقاً وبدون حدود. وفي فترات سفر الشيخ عبد الله السالم، حرص على استشارته – تليفونياً – في القضايا الهامة قبل اتخاذ القرار. وأذكر أنه في أكثر من مرة قام بزيارات خاطفة إلى لبنان لمقابلته والتباحث معه وإطلاعه على ما يحدث في الكويت. وليس عندي أدنى شك في أن العلاقة بينهما كانت تتسم بأعلى مراحل الصفاء والسمو الأخلاقي.


وعندما توفي الشيخ عبدالله السالم في عام 1965، عاد الشيخ إلى الكويت لحضور مراسم الدفن، وكان قد زاره قبلها أثناء مرضه في المستشفى.  بعد انتهاء الدفن،  قام الشيخ صباح السالم، وقبّل رأس عمه الشيخ عبد الله قائلاً له: " الحكم لك يا عمي "، فردّ الشيخ عبد الله بأنه لم يعد لتولي الحكم، وقال: " أنا أثق بكم، وأبارك كل اختياراتكم" .

وتكرر نفس الشيء مرة أخرى في ديسمبر 1977 عندما توفي الشيخ صباح السالم، فقد كان الشيخ عبد الله موجوداً في الكويت. ولما بدأت المشاورات حول اختيار الحاكم ،  تردد عليه بعض كبار رجال الأسرة مقترحين أنه الأقرب إلى الحكم، إلا أن أبا مبارك رفض الفكرة، وبارك ترشيح جابر الأحمد أميراً، والشيخ سعد العبد الله ولياً للعهد، وكان ذلك في قصر دسمان.

وكما حرص على وحدة الأسرة وتضامنها، فقد اهتم بصورتها وهيبتها. واعتقد أنه لا ينبغي لأبنائها أن يشتغلوا بالتجارة، ولا أن ينافسوا أحداً في هذا المجال. وكان الشيخ عبد الله يخشى من دخول أعضاء الأسرة مجال التجارة انطلاقاً من أن السياسة والتجارة لا يلتقيان، والتزم بذلك حتى بعد استقالته إلى أن انتقل إلى جوار ربه في يونيو عام 1991. ولعل من الجدير بالذكر أن نسجل أن هذه القيم تغيرت كثيراً بعد الطفرة النفطية واختلطت السياسة بالتجارة.

وأعود إلى سنة 1960 وكيف تداعت الأحداث على النحو الذي تمّ. ففي العام الأخير قبل استقلال الكويت، برزت وجهات نظر مختلفة بين الشيخ عبد الله والأمير حول عدد من الأمور. كانت هناك تطورات مشكلة الحدود مع العراق، وكان رأي الشيخ أن بعض الأطراف الأجنبية ليس لها مصلحة في حل النزاع مع العراق، وأن استمرار تدخلها يؤدي إلى تغذية الخلاف وتمديد أجله. وكانت هناك قضية تسليح





الجيش الذي رأى فيه الشيخ درع الدولة والمجتمع، وأكد على أهمية الاستمرار في تطوير قدرته. وكانت هناك قضية التسرّع في إصدار القوانين الوضعية وبالذات مدوّنة القانون المدني والجنائي. ورأى الشيخ ضرورة إتاحة وقت أطول للتشاور والتفكير في الآثار المترتبة على تلك القوانين وذلك حتى يحظى القانون بالشرعية الاجتماعية اللازمة لضمان احترام المواطنين له وتنفيذه. فقد لاحظ الشيخ، مثلاً ، أن بعض مواد القانون لا تعبر عن الأوضاع الاجتماعية لشعب الكويت وقيمه، وأنها تخالف التقاليد والأعراف السائدة ( مساعدة شخص أصيب في حادثة في الطريق العام قبل حضور الإسعاف، أو الحق في استخدام السلاح دفاعاً عن النفس عند اقتحام شخص غريب للمنزل) ، كما أنها لا تراعي الفارق بين ظروف أهل المدن وأحوال البادية والقبائل، وقد أثبتت التجربة والممارسة بعد ذلك صحة وجهة نظر عبد الله مبارك  . 

       والأمر المؤكد أن الخلاف لم يثر حول السلطة أو من يخلف الحاكم، لأن الشيخ عبد الله مبارك كان نائب الحاكم، وكان من ناحية البروتوكول و المراسم يأتي بعد الأمير مباشرة سواء من حيث الجلوس في الأماكن العامة، أو من حيث ترتيب الأسماء في وثائق الدولة والصحافة. وهناك الكثير من الأمثلة و الوقائع الدالة على ذلك ويكفي أن أشير إلى مثلين: الأول، أنه عندما أعطى لسيارات الأسرة الحاكمة لوحات معدنية خاصة عليها رسم علمين متقاطعين، أعطى لكل شيـخ رقمـاً يكون رمزاً للسيارات التي تتبعه كان رقم سيارات الشيخ عبد الله مبـارك من 1-1 إلى 1-36، وحملت سيارات الشيخ فهد السالم رقم 2، والشيخ صباح السالم رقم 3، والشيخ حمود الجابر رقم 4، والشيخ مبارك الحمد رقم 5   . والثاني هو رقم جواز سفره الذي كان يحمل رقم 2 بعد الأمير مباشرة، وظل يحتفظ بهذا الرقم في كل تجديد للجواز حتى وفاته.  







       كـان ذلك يعني أنه يتولى الحكـم تلقائياً – وحسب التقاليد المرعية في الأسرة – في حالة وفاة الأمير. ولو كان الشيخ راغباً في الحكم وحسب، فما كان عليه سوى الانتظار والترقب. وحتى ما يقال عن التنافس بين الشيخ عبد الله والشيخ فهد السالم، الذي ضخمته بعض التقارير والروايات فإنه انتهى عملياً بوفاة الشيخ فهد عام 1959.     

       لقد كان سن الشيخ عبد الله، وخبرته في الحكم والإدارة، ونفوذه الفعلي في الجيش والشرطة والبادية، وعلاقاته الخليجية والعربية، تجعل موضوع توليه الحكم بعد الشيخ عبد الله السالم أمراً طبيعياً ويسيراً ومتوقعا من كل الأطراف.

       لذلك، فقد كان من الغريب حقاً ما ظلت التقارير الدبلوماسية الانكليزية تردده لسنوات طويلة حول " تطلع" الشيخ عبد الله للسلطة، وسعيه إليها، واحتمال استخدام  القوة المسلحة للاستيلاء عليها، إذ لم يرد هذا في حساباته قط. وحتى بعد اعتزاله، فإنه رفض هذا الاحتمال بشكل حاسم برغم وجود فرص مواتيه لذلك، وتشجيع بعض العناصر الداخلية والحكومات العربية له بدعوى أحقيته في الحكم، واعتبر أن مجرد البحث في هذا الموضوع هو خيانة للوطن ولأسرة الصباح.

لذلك، لا أتصور أن الانكليز كانوا بمنأى عن تصاعد الخلافات بين الأمير و نائبه. فقد خشوا من زيادة نفوذ الشيخ عبد الله في الكويت، ومن علاقاته العربية، ومن تأثير توجهاته على منطقة الخليج، وخصوصاً في الإمارات.    

ولعلنا نستطيع أن نتصور وقع بعض تصريحاته مثل قوله" إن بلاد العرب للعرب"، ودعمه للجيشين السوري والمصري وإلغائه لتأشيرة دخول الكويت بالنسبة للعرب، وتأييده لتأميم قناة السويس، وحماسته للتضامن العربي والوحدة العربية “.







       والخلاصة، أن الشيخ عبد الله لم يكن الشخص الذي يرتاح الانكليز له لاستقلاله برأيه واعتزازه بنفسه. لذلك فقد حرصوا على إبعاده عن السلطة قبل حصول الكويت على الاستقلال. ولعلي أذكر هنا أنني خلال إعداد هذا الكتاب اطلعت على المذكرات السياسية (Political Diaries  (  التي تتضمن تقارير الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، ولاحظت أن المذكرات عن الفترة 25 ابريل – 24 مايو، وكذلك الفترة 25 أغسطس – 24 سبتمبر من عـام 1961 لـم يكشف

عنهـا النقـاب بعد. وبرغـم أن هـذه الوثائق ليست ذات طبيعة غاية في السرية ( Top Secret  ) ، وبرغم مضي أكثر من ثلاثين عاماً عليها، فإنه لم يتم توفيرها للباحثين حتى كتابة هذه السطور في نهاية عام 1995، ولعل في ذلك، ربما، إشارة إلى أهمية وحساسية ما تتضمنه من معلومات وتقييمات حول دور بريطانيا في هذا الوقت .

       وفي مجال تفسير رغبة الشيخ في الاستقالة، فبالإضافة إلى ما تقدم، اعتقد أن هناك جانباً نفسياً وشخصياً ربما أثر على قراره، وهو زواجه ورغبته في إعطاء وقت أكبر للأسرة. وبالذات لأنه، وبعد أكثر من ربع قرن من الخدمة العامة ، شعر بالاستقرار العائلي وبالمسؤولية تجاه العائلة الصغيرة .

       ما زلت أذكر جيداً ما حدث في هذه الأيام، ورغبة الشيخ في الانسحاب من الحياة السياسية دون جلبة أو صدام. لذلك قرر الاعتكاف لفترة في لبنان ، وبالفعل سافرنا إلى بيروت في يناير . وحرص الشيخ خلال هذه الفترة على متابعة المفاوضات مع لندن بشأن صفقة الطائرات. كما حرص على ممارسة حياته العامة بشكل طبيعي، فكان يلتقي برجال السياسة والصحافة بشكل منتظم ويعقد الاجتماعات والندوات اليومية التي كانت تتناول كل القضايا العربية.









       ولكن عندما حل موعد زيارة رسمية للملك سعود إلى الكويت في مطلع شهر ابريل، سارع بالعودة ليكون في استقباله حرصاً منه على تضامن الأسرة ووحدتها ، كذلك بسبب الصلة الوثيقـة التي ربطت الشيخ عبدالله بالسعودية. وشارك الشيخ عبدالله في احتفالات استقبال الملك، وأعد عرضاً عسكرياً مهيباً للجيش الكويتي، واستضاف أبناء الملك في قصر مشرف. حينذاك ذاعت أنباء بأن الملك سعود توسط بين الحاكم والشيخ ولكن الأرجح أن ذلك لم يكن صحيحاً.



       أتذكر جيداً أحداث الليلة السابقة لمغادرتنا الكويت للمرة الثانية:

كنا نجلس في حديقة القصر الأبيض على الأرض. كان الليل قد ألقى بظلاله بعد انصراف ضيوف "الديوانية"، وبقي عدد من المقربين إليه من بينهم الشيخ مبارك العبد الله الجابر، وحمد الحميضي، وسليمان الموسى، ومحمد جعفر، وعبدالرزاق القدومي، ويعقوب بصارة، وسالم بوحديدة، وعزت جعفر. كنت أجلس إلى جواره، وأتذكر أنه دعا عزت جعفر للاقتراب منه وسلمه رسالة، وطلب منه تسليمها للشيخ عبدالله السالم . وكانت الرسالة تتضمن خطاب استقالته الذي كتبه بخط يده إلى أمير البلاد. وحرصاً منه على أن يترك للأمير اعلان الاستقالة بالشكل الذي يريده، وفي التوقيت الذي يراه، فقد ترك التاريخ دون تحديد، وطلب من جبره شحيبر اعداد الطائرة للسفر إلى لبنان وبالفعل سافرنا يوم 17 ابريل .

صعدنا إلى الطائرة في السادسة صباحاً، وكان في وداعنا عدد من الأصدقاء . وصعد معنا الشيخ مبارك العبد الله الجابر الذي كان الشيخ بالنسبة له أباً ومعلماً، وحاول ثنيه عن السفر، وأجهش بالبكاء من شدة تأثره. وقتها قال الشيخ: إنه ترك الكويت في أيد أمينة، وأنه بلغ مرحلة آن له فيها أن يخلد للراحة. وبعد أيام من سفرنا، أرسل الشيخ عبد الله السالم وفداً يضم الشيخ مبارك العبد الله الجابر وحمد الحميضي وناصر الصباح يحملون رسالة من الأمير يطلب فيها من الشيخ عبد الله العودة للتفاهم. فقال الشيخ أن موقفه معروف ورأيه في القضايا موضع الخلاف ليس محلاً للتغيير.

       وعندما اندلعت الأزمة مع العراق في يونيو، لم يكن الشيخ عبد الله ليسمح لنفسه بأن يكون في الخارج في الوقت الذي تتعرض فيه الكويت للتهديد، فسارع إلى العودة مرة ثانية يوم 27 يونيو، وأبدى استعداده للعمل كمواطن كويتي- في أي موقع . وعندما شعر بأن وجوده قد يسبب حرجاً لآخرين، عاد إلى بيروت في اليوم التالي مباشرة، وأعلن وقتها أن الأمير قد طلب منه الاتصال بالأمين العام لجامعة الدول العربية لتنسيق المواقف المؤيدة للكويت.                             

وخلال هذه الأزمة، استخدم الشيخ عبدالله علاقاته بضباط الجيش العراقي لتعطيل مخططات الاقتراب من الحدود الكويتية. وساهم في ذلك قائد الفرقة المدرعة الثالثة، الذي قام الشيخ بعد ذلك بترتيب منحه حق اللجوء السياسي إلى مصر.

أقمنا في بيروت لفترة في 29 أغسطس عام 1961 رزقنا بأول أطفالنا مبارك – الذي ملأت ولادته حياة الشيخ بهجة وفرحاً. وفي مايو من العام التالي، عاد إلى الكويت لحضور مراسم دفن شقيقته الشيخة حصة أرملة الشيخ سالم الحمود ووالدة زوجة الشيخ صباح الأحمد . وفي شهر يونيو، زار مصر والتقى الرئيس جمال عبد الناصر. وفي سبتمبر قام بجولة شملت ايطاليا والمانيا والنمسا والمغرب.

وفي عام 1963، قام الشيخ بزيارة إلى الفاتيكان والمقر البابوي وقابل البابا. ورغم أن الشيخ لم يكن يتولى منصباً رسمياً أو حكومياً، ومع أن معاوني البابا طلبوا منه عدم إثارة قضايا سياسية في المقابلة، فقد طرح الشيخ موضوع الزيارة المرتقبة للبابا إلى إسرائيل، وما إذا كان هدفها سياسياً أو دينياً. وأكد له البابا الطابع الديني للزيارة وأنها لا تعني تغيراً في موقف الفاتيكان تجاه القضية الفلسطينية، و " أن زيارة الأماكن المقدسة تبقى في إطار العوامل الدينية التي أملتها"  . 

وفي هذه الفترة استمرت الشائعات السياسية في مطاردة الشيخ. ففي ديسمبر عام 1962، أخبر الملك حسين السفير البريطاني في عمّان بأنه حصل على معلومات تشير إلى قيام الشيخ عبدالله مبارك بالإعداد لانقلاب، وأنه سوف يستخدم بعض الجنود المرتزقة لتحقيق ذلك، وأنه على اتصال بعبدالناصر أو قاسم. وعلّق السفير البريطاني بعمان في برقيته التي أرسلها إلى لندن بأنه حرص على إبلاغ الوزارة بهذه المعلومات برغم عدم ثقته فيها، وأنه لا يعتقد في وجود صلة بين الشيخ وعبدالكريم قاسم.



وأرسلت وزارة الخارجية البريطانية هذه المعلومات إلى سفارتيها بالكويت والقاهرة للتأكد منها، فردّت السفارة البريطانية في الكويت بأن هذه المعلومات "غير محتملة" ، وردت السفارة البريطانية في القاهرة بأنه لم يصلها أي معلومات تتعلق بذلك.

والحقيقة، أن عبدالله مبارك رفض أي تدخل خارجي أو وساطة في العلاقة بينه وبين إخوته من أسرة الصباح. كما رفض بعنف محاولات بعض الدول التي سعت لاستثمار هذا الخلاف، أو العروض المستترة التي قدمها البعض لدعمه لاستعادة منصبه في الكويت. كان يكرر دوماً: "لقد استقلت بمحض إرادتي، وسجلي أحمله بيميني، ودوري محفور في تاريخ الكويت لا يمكن أن ينكره أحد" .

وفي عام 1965، ترددت الشائعة مرة أخرى وكان مؤداها أن الشيخ يدبر لانقلاب عسكري، ويؤلف حكومة في الخارج. لذلك سارع الشيخ بالعودة إلى الكويت وكأن لسان حاله يقول: ها أنذا موجود بينكم، أنا لا أقبل أن أفعل أي شيء ضد وطني وأسرتي وأهل بيتي . وكان في استقباله في المطار الشيخ خالد العبدالله السالم ، والشيخ جابر الأحمد، والشيخ محمد الأحمد الجابر، والشيخ سعد العبدالله السالم. وعاد مرة ثانية للكويت في سبتمبر للاطمئنان على صحة الشيخ عبدالله السالم . وعند وفاته في أكتوبر، سارع بالعودة وشارك في الجنازة ومراسم الدفن.

 وخلال فترة إقامتنا في بيروت، لم يتوقف الشيخ عن نشاطه السياسي. كان بيتنا بمثابة خلية نحل يرتادها الكويتيون الذين يحضرون إلى لبنان، ويعج بالصحفيين والسياسيين اللبنانيين من كل صوب واتجاه. واستخدم الشيخ نفوذه السياسي والأدبي لدعم الرئيس جمال عبد الناصر وسياساته. ويبدو أن ذلك كان موضع متابعة وتقدير

من أجهزة السفارة المصرية في بيروت كما يعكس ذلك التقرير المؤرخ في 21 فبراير 1963 بعنوان " نشاط وميول والاتجاه السياسي للأمير عبد الله مبارك الصباح". وقد استمرت إقامتنا في بيروت حتى عام 1965 عندما قررنا الانتقال إلى القاهرة، وذلك بناء على دعوة من الرئيس عبد الناصر. كنا في باريس عندما تلقينا الدعوة للإقامة في مصر، التي تضمنت أن الرئيس يرى أن القاهرة هي المكان الطبيعي لإقامة ا لشيخ عبد الله . ولذلك عدنا مباشرة من فرنسا إلى مصر. وتعددت مساكننا في القاهرة، فأقمنا في " قصر العروبة" بشارع خليل أغا بجاردن سيتي، وفي " قصر العروبة " برشدي بالاسكندرية، ثم أخيراً بمنزلنا بشارع العروبة بمصر الجديدة.

وخلال إقامتنا بمصر، عاملت السلطات المصرية الشيخ عبدالله معاملة خاصة، وكانت العلاقة  بين الشيخ وعبدالناصر وقادة الثورة وطيدة ومتميزة. فأصدر الرئيس جمال عبد الناصر توجيهاته لمنح الشيخ حق الاعفاء الجمركي. لذلك فقد اندهشت كثيراً عندما أورد الأستاذ محمد حسنين هيكل معلومات خاطئة ولا أساس لها في كتابه " خريف الغضب" ، والذي زعم فيه أن أنور السادات طلب من الرئيس عبد الناصر إضافة مميزات الحصانة الدبلوماسية على الشيخ عبدالله "حتى يستطيع استيراد ما يحتاجه من الخارج بدون جمارك" وأن الرئيس عبدالناصر رد على ذلك بأنه "لا مجال لقبول الطلب لأنه استثناء يسيء إلى السادات وإلى الصباح معاً، فليس لمسؤول رسمي أن يطلب استثناء من هذا النوع مهما كانت الأسباب. ثم إن إعطاء استثناء للشيخ مبارك لا يتمتع به غيره من اللاجئين السياسيين إساءة إليه أيضاً " .



والغريب أن يذكر الأستاذ هيكل هذه الواقعة – وهو الذي كان قريباً من الرئيس عبد الناصر والذي يفاخر بأنه لا يكتب من الذاكرة وإنما يعتمد على الوثائق في ما يعرض له من موضوعات. فالحقيقة، أن وزير الخزانة د. نزيه ضيف أصدر

القرار رقم 22 لسنة 1966 الذي نشر في الوقائع المصرية – وهي الجريدة الرسمية في مصر – تحت عنوان " بشأن إعفاء ما يرد للشيخ عبد الله مبارك الصباح من أشياء للاستعمال الشخصي من الضرائب والرسوم الجمركية ". وجاء في ديباجة القرار أنه اتخذ بناء على اقتراح من وزارة الخارجية، وليس من المتصور أن تقترح وزارة الخارجية مثل هذا الإجراء دون موافقة صريحة من الرئيس عبد الناصر.

وكان للشيخ ترتيب بروتوكولي متميز في المناسبات والاحتفالات السياسية التي يحضرها الرئيس، مثل افتتاح دورة مجلس الأمة أو الاحتفال بذكرى ثورة يوليو، أو زيارة بعض رؤساء الدول العربية. كما كان الرئيس يدعوه في المناسبات الخاصة، مثل حفل زواج كريمته هدى في عام 1966 ثم حفل زواج كريمته منى بعد ذلك . وعندما توفي عبد الناصر في عام 1970، كان الشيخ من أوائل من سارعوا بالذهاب إلى منزل الأسرة في منشية البكري ثم إلى قصر القبة. واستمر هذا الترتيب البروتوكولي المتميز للشيخ في عهد الرئيس السادات.

وخلال هذه السنوات كلها ، حرص الشيخ على مواصلة دوره  الوطني والقومي. فعندما وقع الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 سبتمبر عام 1961، ارتفع صوت الشيخ في الصحافة اللبنانية مندداً بالحدث. وبمناسبة أسبوع نصرة الجزائر في لبنان تبرع الشيخ بمائة ألف ليرة . وبمناسبة إعلان قيام الاتحاد الثلاثي بين ج.م.ع وسوريا والعراق في عام 1963 ، أهدى الشيـخ 100 سيارة جيب للجيش المصري ، وقام بدعم اتحاد طلاب فلسطين في غزة ، والتقى الرئيس عبد الناصر في مارس عام 1964. وفي عام 1966، أرسل الشيخ شيكاً بمبلغ مليون دولار للرئيس المصري عبد الناصر " تاركاً للرئيس أمر





توجيهه إلى أي غرض من أغراض النفع العام كما يراه" وخصص الرئيس المبلغ للكليات العلمية بجامعة القاهرة وبالذات مستشفى قصر العيني.

وعندما نشبت حرب 1967 وعلم الشيخ بحاجة مصر إلى بعض الاحتياجات الطبية والدوائية، سارع – وكنا في جنيف – بتدبير المطلوب من خلال صيدلي من أصل مصري – د. غليونجي – وتم إرسال عدد من عربات الإسعاف والأدوية كما

تبرع بمليون دولار لصالح الجيش المصري. وفي عام 1973، تبرع الشيخ بمليون جنيه مصري لصالح المجهود الحربي. واستمر دعمه للقضية الفلسطينية، وفي أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 ، تبرع الشيخ بمبلغ مليون دولار نصفها في شكل أدوية ونصفها الآخر نقداً للمقاومة الفلسطينية، وقد أرسلت عن طريق الصليب الأحمر الدولي في جنيف.

       في عام 1973، فقدنا ابننا الأكبر مبارك. كنا مسافرين من القاهرة إلى جنيف. جلست بمفردي مع مبارك عندما داهمته أزمة ربو في الجو، وعندما هبطت الطائرة في أثينا، كان الله قد استرد وديعته. وعندما حضر أبو مبارك، حاول أن يبدو متماسكاً ولكني أدركت أن شرخاً كبيراً كان قد تسلل إلى داخله.

       عدنا إلى القاهرة، وكان الرئيس السادات في استقبالنا في المطار. وأتممنا مراسم الدفن. وبنى "أبومبارك" مدرسة ومسجداً بجوار البيت الذي دفن مبارك في حديقته. وأسجل هنا أن الرئيس السادات كان شهماً وكريماً، فلم يشارك في الجنازة وحسب، بل اشترك مع الشيخ في مراسم الدفن.

       وفي نفس العام، انتهيت من دراستي بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، وحصلت على درجة البكالوريوس في الاقتصاد، ثم اجتزت امتحانات السنة التمهيدية











للحصول على الماجستير. وفي عام 1974 سافرت إلى بريطانيا لاستكمال دراستي العليا في الاقتصاد من جامعة سرّي ( Surrey )، وشجعني الشيخ على طلب العلم، وسافر معي، واستقر بنا المطاف في لندن. وترددنا باستمرار على الكويت، وحرص الشيخ على قضاء شهر رمضان فيها في كل عام، حتى عدنا إليها عام 1978.

       وخلال هذه السنوات، لم أشعر أبداً بأن الشيخ عبد الله ندم على استقالته، بل كان يشعر بأنه أخذ فرصته كاملة، وقام بدوره في خدمة وطنه. ولكن ألمه الأكبر كان بسبب الجحود وإنكار الجميل والشائعات التي ترددت حوله. لا أستطيع أن أنقل بالكلمات مدى الألم الذي كان يعتصره عندما تصل إلى سمعه محاولات البعض لتشويه أسمه والتقليل من الدور الذي قام به في تاريخ بلده، وكأن الكويت ولدت من فراغ ، أو كأنه لم يكن هناك رواداً وضعوا الأساس في مرحلة ما قبل الاستقلال. كان يعلق بقوله : إنه لن يصح إلا الصحيح وأن الله لن يضيع أجره. وكنت أراقبه أحياناً وهو يقرأ عن أمر ما في الصحافة الكويتية ثم يقول " حسبي الله ونعم الوكيل " فقد كان إيمانه بالله عميقاً راسخاً لا يتزعزع، وواجه قدره بشجاعة الرجال. وفي أوقات الراحة كان يسعد بكتابة آيات من ا لقرآن الكريم .                                        

       ولكنه لم يفكر قط في استخدام علاقاته الواسعة مع رجال الصحافة والإعلام للرد على هذه الافتراءات. فما كان الشيخ يتصور أن يكون خلف حملة إعلامية تستهدف انتقاد سياسة بلده وأسرته. لذلك فقد التزم الصمت، ولم يدل بأي تصريح صحفي حول الشؤون الداخلية أو الخارجية للكويت خلال الثلاثين عاماً التي مرت ما بين استقالته ووفاته، أو عن أسباب هذه الاستقالة . وأذكر أن الرئيس عبد الناصر امتدحه كثيراً لاّتباعه هذا المسلك الذي يدل – حسب قول الرئيس له – على عزة النفس والثقة بالذات .









       لم يكن أيضاً مستريحاً لبعض ما حدث في الكويت تحت تأثير الثروة، وكان يقـول : إن تلك لم تكن هي الكويـت التي سعـى هو وأبنـاء جيله لبنائها. انتقـد " الاتكالية " السائدة بين بعض الشبان ، كما انتقد ازدياد نسبة غير العرب بين المقيمين، وكان يقول : إن هذه التركيبة " لا تقيم وطناً ولا جيشاً " ، وأعتقد أن الإنسان لن يعطي بإخلاص للدولة إذا كان لا يحمل جنسيتها. رأى ضرورة تجنيس أهل البادية، كما رأى ضرورة التوسع في تجنيس العرب الذي أقاموا بالبلاد لفترات طويلة .

    لم يكن منغلقاً أو رافضاً للتجديد بدليل دعمه وتشجيعه لي، ولكنه رأى أن الشهامة قد ضعفت وفقدت معناها. وجد مرة شخصاً يسير أمام والده فقال:    

" من يفعل هذا لا يحضر لي مجلساً، فهذه تصرفات لا نعرفها ولم ننشأ عليها" وكان يقول أن النفط قد لوث بعض أخلاقنا. وكثير من قصائدي وكتاباتي هي من وحي أفكاره وتعليقاته.



                               

        

        

     
* عن كتاب (صقر الخليج.. عبدالله مبارك الصباح)